تؤدي النزاعات والتطرف المصحوب بالعنف، وانتشار الأسلحة، والتشريد الجماعي، وانهيار سيادة القانون، إلى ظهور أنماط من الاعتداءات والعنف الذي يقع على الناس وبالأخص النساء والأطفال والرجال أيضاً، ولا يقتصر هذا العنف على الاعتداء والتشريد بل يصل للعنف الجنسي الذي تلجأ إليه المجموعات المسلحة وحتى الجيوش المنظمة والجماعات المتطرفة كوسيلة للاضطهاد والانتقام والحصول على الاعترافات.

فالعنف الجنسي كما عرفته اللجنة الدولية للصليب الأحمر"يستخدم مصطلح العنف الجنسي لوصف أعمال ذات طابع جنسي؛ فرضت بالقوة أو الإكراه، كأن ينشأ عن خوف الشخص المعني أو شخص آخر من التعرض لأعمال عنف أو إكراه أو احتجاز أو إيذاء نفسي أو إساءة استخدام السلطة ضد أي ضحية". ويشمل العنف الجنسي: "الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة".

ويستخدم العنف الجنسي كشكل من أشكال الانتقام لبث الخوف أو كشكل من أشكال التعذيب، ويستخدم أيضًا بصورة منهجية كوسيلة من وسائل الحرب الغرض منها تدمير النسيج الاجتماعي، وهناك نمط يمكن رؤيته بوضوح؛ وهو استفادة المقاتلين من العنف الجنسي.

على الرغم من انتشار العنف الجنسي في العديد من النزاعات المسلحة فإنه غالباً ما يظل غير مرئي؛ فثمة شعور بالذنب أو الخجل أو الخوف من الانتقام أو المحظورات التي تحيط بهذه المسألة تمنع الضحايا من الإبلاغ، ولذا فهو من أدنى الجرائم ـ التي تقع في الحروب ـ في معدلات الإبلاغ، ونتيجة لذلك غالبًا ما يجري إخفاء الأبعاد الكاملة للمشكلة، ويترتب على ذلك صعوبة الوصول إلى الضحايا ومساعدتهم.

بالنسبة للعديد من الضحايا، سرعان ما يلي الخوف من الاغتصاب الخوف من النبذ، فمن الشائع أن تعاقب المجتمعات الضحية بدلا من الجاني؛ وبالإضافة إلى الصدمة البدنية والنفسية المدمرة يمكن أن يكون للوصم الذي يأتي في أعقاب الاغتصاب آثار دائمة، بل قد تكون مميتة، ومنها: القتل دفاعا عن العرض، والانتحار، والأمراض النفسية، والإصابة بالأمراض العضوية التي تبقى بلا علاج (فيروس نقص المناعة البشرية والأمراض الأخرى المنقولة جنسيا)، والإجهاض غير المأمون، والعوز، وسلوكيات البقاء الشديدة الخطورة..

وللتعريف بهذه الظاهرة الخطيرة خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 19 يونيو من كل عام بوصفه اليوم الدولي للقضاء على العنف الجنسي في حالات النزاع. وأوضح القرار أن الهدف من ذلك هو التوعية بالحاجة إلى وضع حد للعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات وتكريم ضحايا العنف الجنسي في جميع أنحاء العالم، والإشادة بكل الذين تجاسروا فأخلصوا أوقاتهم للقضاء على هذه الجرائم وجادوا بأنفسهم في سبيل ذلك المقصد.

ضحايا العنف الجنسي من الذكور               

على الرغم من أن الوصم يكاد يكون ظاهرة عالمية، فإن مظاهره تتباين بشدة في المجتمعات المختلفة، إلا أنه لا يزال العنف الجنسي الواقع على الذكور تكتنفه المحظورات الثقافية في كثير من المجتمعات، ولا يتاح له إلا أقل القليل من الدعم ـ إن وجد ـ وهناك أكثر من 60 دولة لا زالت لا تدرج الضحايا الذكور ضمن نطاق التشريعات المتعلقة بالعنف الجنسي.  ليس هناك أدنى شك في أن نطاق المشكلة بخصوص الضحايا الذكور واسع، وقد حددت منظمة الصحة العالمية العنف الجنسي ضد الرجال والفتيان كمشكلة كبيرة يتم تجاهلها إلى حد كبير من قبل المنظمات غير الحكومية ومقدمي الرعاية الصحية والوكالات الحكومية وسلطات العدالة الجنائية وغيرهم.

يمكن للانتهاكات أن تأخذ العديد من الأشكال، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي والتعرية القسرية والإجبار على القيام بأفعال جنسية مع الآخرين. عادَةً يُرتكب العنف الجنسي ضد الرجال في حالات الاحتجاز. وقد أظهرت الدراسات هذا النمط في سياقات مثل تشيلي والسلفادور وسريلانكا وسوريا والولايات المتحدة ويوغوسلافيا السابقة وليبيا، كما ورد ذلك في تقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية

مساعي الأمم المتحدة للحد من العنف الجنسي خلال النزاعات المسلحة:

قال الأمين العام للأمم المتحدة أنه أنشأ خلال أول أسبوع له في أمانة الأمم المتحدة، فرقة عمل رفيعة المستوى لوضع مقترحات جديدة طموحة لمنع حدوث هذه الآفة تحت راية الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، حدد أربعة التزامات رئيسية، وهي:

أولا: يجب أن نرفع صوت الضحايا؛ ونضع حقوقهم وكرامتهم في طليعة جهودنا؛ ونتصدى للوصم والتمييز الذي يواجهونه.

ثانيا: يجب أن نضع حدا لإفلات مرتكبي الاستغلال والانتهاك الجنسيين من العقاب.

ثالثا: يجب أن نستفيد من حكمة وتوجيه جميع المتضررين والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية وأن نبني شبكة دعم متينة.

رابعا: يجب علينا زيادة الوعي في جميع أنحاء العالم وزيادة شفافيتنا حول هذه القضية.

 

كما أكد الأمين العام على أن العديد من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية قد وقعت على اتفاق طوعي مع الأمم المتحدة بشأن التزامنا المتبادل بمنع الاستغلال والانتهاك الجنسيين

العنف الجنسي في النزاعات في ليبيا

برزت جريمة استخدام الجنس كأداة حرب في ليبيا خلال النزاع المسلح في عام 2011، عندما ظهرت شهادات بأن الكتائب الأمنية التابعة للنظام السابق تقوم بعمليات اغتصاب تستهدف المدنيين، وفق سياسة ممنهجة آنذاك للقضاء على الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في عدة مدن ليبية منذ شهر فبراير من ذلك العام، ولكن لم تبدأ ظاهرة استخدام العنف الجنسي في ليبيا في فبراير 2011 ولم تتوقف هذه الجريمة بسقوط نظام القذافي، بل استمرت وتنامت في السجون والمعتقلات الليبية، وتقوم منذ ذلك التاريخ بارتكابها أطراف عديدة.

حسب روايات بعض السجناء السياسيين وسجناء الرأي في حقبة النظام السابق، أن العنف الجنسي كان يستخدم كوسيلة لانتزاع الاعترافات ووسيلة للتعذيب؛ كما أن كتاب السيد عبد الرحمن شلقم، الذي تولى عدة مناصب رفيعة في نظام العقيد القذافي، بعنوان "أشخاص حول القذافي" أشار إلى استخدام القذافي الجنس لأهداف سياسية وشخصية

ورصدت منظمة التضامن لحقوق الإنسان عديد الشهادات التي تحدث فيها معتقلون سابقون في سجون ليبية، أنهم تعرضوا لعنف جنسي وبعضهم كان شاهداً على وقوع حالات اغتصاب، وقد أكد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن "العنف الجنسي المتصل بالنزاعات" حدوث عنف جنسي ضد الرجال في بعض السجون الليبية؛ حيث تم توثيق حالات اعتداء جنسي في جهاز الأمن الداخلي في الكويفية، في ظل رئاسة العقيد محمد إدريس السعيطي كما أنه في بعض مراكز الاحتجاز، لا سيما التي لا يحتجز فيها الرجال والنساء والأطفال في أماكن منفصلة، تتعرض النساء لعمليات تفتيش تخلع فيها ثيابهن تحت رقابة الحراس الذكور، وفي عام 2017، وثقت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا حالات سوء معاملة شملت تهديدات ذات طابع جنسي في مرفق الاحتجاز في معيتيقه الذي تديره قوة الردع الخاصة، وإدارة الأمن المركزي- كتيبة أبو سليم ـ ومواقع أخرى تخضع رسميا لسيطرة وزارة الداخلية، وتفيد التقارير أيضا بأن العنف الجنسي يستخدم كشكل من أشكال تعذيب الرجال في مراكز الاحتجاز التي تديرها جهات مسلحة. وثمة جماعات معروف أنها بايعت ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية ضالعة في عمليات اختطاف وانتهاك جنسي مثل ما حصل في مدينة سرت الليبية قبل أن تقوم بتحريرها قوات البنيان المرصوص من قبضة التنظيم.

المناخ غير المستقر في ليبيا سمح لشبكات التهريب والاتجار بالبشر بالازدهار، وقد تم توثيق أنماط من العنف الجنسي ضد المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء، لم يقتصر ارتكابها على المهربين، والمتاجرين، والشبكات الإجرامية، وإنما شمل أيضا أفرادًا من الشرطة والحراس المرتبطين بوزارة الداخلية في بعض الحالات، كذلك تورط في تلك الانتهاكات جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية وخفر السواحل

وفي أكتوبر 2017، أدانت إحدى المحاكم في إيطاليا مواطنا صوماليا بارتكاب جرائم متعددة ضد المهاجرين في مدينة "بني وليد"، بما في ذلك العنف الجنسي. وفي سبتمبر 2017، وبعد ضغط دولي بشأن الادعاءات المتعلقة بالانتهاكات الجنسية، أعلن جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية إغلاق مركز احتجاز سيئ السمعة في مدينة صرمان الذي كان يديره العقيد إبراهيم المحجوبي، ولكن وحتى تاريخ إعداد التقرير لم يمثل أحد من المسؤولين في ذلك المركز أمام العدالة.

ولا زال المدافعون عن حقوق المرأة والنساء الناشطات في الحياة العامة مستهدفين من قبل الجماعات المسلحة التابعة للدولة وغير التابعة لها؛ فهم معرضون للانتهاكات الجنسية وغيرها من أشكال الانتهاكات حسب الأمين العام في تقريره حول العنف الجنسي أثناء النزاعات

ورغم كل الجهود التي تبذل من أجل تسليط الضوء على العنف الجنسي الذي يحصل في ليبيا في ظل النزاعات المسلحة المستمرة إلا أنها لا زالت خجولة ولا ترتقي للتشخيص الحقيقي للمشكلة:

لازالت السجون والمعتقلات في ليبيا خارج نطاق المتابعة والرقابة الفعالة ولا يؤخذ بكل التوصيات المتعلقة بالكف عن العنف الجنسي،

على الرغم من وجود العديد من المنظمات والوكالات الدولية العاملة في مجال الطفولة إلا أن الأطفال القاصرين في ليبيا والمحتجزين في السجون والمعتقلات هم خارج المتابعة سواء من أطفال المهاجرين غير النظاميين أو الليبيين أنفسهم، ومن ثم فهم عرضة للعنف والاستغلال الجنسي،

لم تتوقف النزاعات المسلحة في ليبيا وآخرها حصار مدينة درنة واجتياحها منذ مطلع شهر مايو 2018، فقد تعرض عدد من المدنيين للإذلال الجنسي وتعريتهم أثناء التحقيقات والإعدامات الميدانية، و

شريحة الأحداث القاصرين الذين أودعوا السجون الليبية مع السجناء البالغين، مثل سجن الكويفية في بنغازي وسجن "عين زارة" ومعتقل معيتيقه في العاصمة طرابلس، بحجة عدم وجود سجن خاص بالأحداث، فلا زالت وزارة الشؤون الاجتماعية المناط بها حمايتهم عاجزة عن توفير المكان لهم رغم علمها بالمخاطر التي يتعرضون لها بوجودهم مع سجناء بالغين في نفس مكان الاعتقال.

توصيات:

يجب الإنذار المبكر بالعنف الجنسي حال رصده أثناء حالات النزاع، خاصة في الفترات التي تشهد عدم الاستقرار وأثناء حالات التهجير القسري والاعتقال التعسفي، يجب اتخاذ الإجراءات المناسبة بما في ذلك إدانة أي تحريض على العنف الجنسي،

من المهم وضع ترتيبات دستورية وتشريعية ومؤسسية من أجل التصدي بصورة شاملة للعنف الجنسي المتصل بالنزاعات ومنع تكراره مع إيلاء اهتمام خاص بالأشخاص ذوي الإعاقة، والضحايا الذكور، والنساء والأطفال المرتبطين بالجماعات المسلحة، وضحايا الاتجار بالأشخاص ومهربي البشر،

التكثيف من الزيارات الميدانية والدورية لمراكز الاحتجاز والسجون ومخيمات المهجرين والنازحين للتركيز على الشواغل المتعلقة بالعنف الجنسي،

دعم حملات تعبئة مجتمعية للمساعدة في تحويل وصمة العار المرتبطة بالعنف الجنسي من الضحايا إلى الجناة باستخدام كل الوسائل الممكنة ومنها الحوار مع الشيوخ والمصلحين، ومع الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ليبيا،

على وزارة الشؤون الاجتماعية والمناط بها حماية الأحداث والقاصرين في ليبيا تحمل مسؤوليتها وعدم السماح باحتجاز القاصرين في سجون بعيدة عن إشرافها المباشر، فالمكان الطبيعي للأحداث هو دور الأحداث التي تم تخصيصها لهم وتشرف عليها إدارات صندوق التضامن الاجتماعي، فوجود الأحداث في سجون البالغين يعرضهم للاعتداء والابتزاز الجنسي وهذا ما رصد في عدة سجون ليبية،

زيادة تمثيل المرأة في أجهزة الشرطة وإنشاء وحدات متخصصة داخل الشرطة ومراكز الاحتجاز، والحذر من استمرار قيام الرجال بهذه المهمة، خاصة في السجون والمعتقلات ومراكز الاحتجاز الخاصة بالمهجرين غير النظاميين، و

على السلطات الليبية المشاركة في التوقيع على الاتفاقية الطوعية مع الأمم المتحدة بشأن الالتزام المتبادل بمنع الاستغلال والانتهاك الجنسيين.

التضامن لحقوق الانسان