تعتبر الرحلات نوعاً من أنواع الترابط والتواصل والتقارب الحضاري بين الشعوب فمن خلالها يلتقي الرحالة بأهل البلد، ويقيم عندهم، ويصف أحوالهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وفي كثير من الأحيان يتزوج بالبلد التي يحل بها، ويشترك معهم في معيشتهم مثلما فعل الرحالة أبن بطوطة (703-779 هـ - 1303-1377م) الذي تزوج بليبيا مرتين مرة بطرابلس ومرة بالجبل الأخضر وتزوج بالهند، وعين قاضياً بالمالديف وبعث سفيراً إلى ملك الصين. (1)

تلعب الرحلات دوراً مهماً في التواصل بين الشعوب فهي الوسيلة لنقل العلوم والعادات والمعارف، وأخبار الدول، وأوصاف الناس، ويعتبر التواصل بين الشعوب وسيلة من وسائل نقل خبرات وثقافة هذه الشعوب إلى غيرها، فالرحلة علم وفن في حد ذاتها يقول أبن منظور الأفريقي الطرابلسي "رحل الرجل إذا سار... ورجل رحال عالم بذلك مجيد له".(2)

والرحلة مرتبطة بالترحال والاستكشاف والملاحظة وحب الإطلاع والمسير والضرب في الأرض، وكثير ما يصف الرحالة ما يجري له في رحلته، ومن صفات العرب عن غيرهم من شعوب الأرض كثرة الترحال في الأرض ربما لارتباطهم وعيشهم في الصحراء.

يتشابه الشعب الليبي في عاداته وتقاليده مع الشعب الموريتاني فأهل ليبيا يبالغون في إكرام الغرباء المسافرين خاصة إذا كانوا من حجاج بيت الله الحرام، وقد حفلت كتب الرحلات بكثير من القصص عن كرم أهل ليبيا، واستضافتهم لهؤلاء الحجاج والعابرين، وكان أولئك العابرون في غالبيتهم من العلماء والفقهاء الذين دونوا ما شاهدوه عن أهل ليبيا، وكانت رحلاتهم من أهم الوسائل لمعرفة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية لأهل ليبيا في الماضي.

اشتهرت الرحلات المغربية (موريتانيا ـ المغرب) القاصدة بيت الله الحرام باسم الرحلات الحجية(3)، وبسبب حب هؤلاء الرحالة للرسول الله صلى الله عليه وسلم وللأماكن المقدسة دونوا وكتبوا ما شاهدوه في رحلاتهم، وكانت قلوبهم متعلقة بتلك الأماكن فالرحالة ابن طوير الجنة أسمى رحلته باسم (رحلة المنى والمنة) مما يدل على تعلقه وحبه لبيت الله الحرام، والمنى هو أقصى ما يتمناه الإنسان، ويأمل الحصول عليه والوصول إليه.

وكان الحجاج المغاربة يتجمعون لأداء فريضة الحج في ركب عرف بركب المغاربة، ونشأ كما يؤكد بعض الباحثين أواسط العهد الموحدي، حيث تكون ما يعرف بالركب (الفاسي ـ السلجماسي ـ المراكشي ـ الشنقيطي). (4)

وكان من أهم أهداف الرحالة المغاربة هدفين أساسين هما أداء فريضة الحج أولاً، وثانياً التعارف والتواصل مع علماء المشرق عن طريق اللقاء والتواصل والمناظرة والسؤال. فمن أهم فوائد الرحلة أنها:

[1] تنقل الأفكار والثقافات بين الشعوب.
[2] الأخذ عن الشيوخ وطلب العلم والاشتراك في المساجلات والمناظرات.
[3] نسخ الكتب ونقلها.
[4] توثيق الصلات الاجتماعية.

• بلاد شنقيط:

كانت موريتانيا في القديم تسمى ببلاد شنقيط وهي مدينة قديمة تقع في منطقة أدرار وتعني بالصنهاجية (عيون الخيل)، وكانت مركز أشعاع حضاري وثقافي وفكري، وكانت مركز تجاري بالإضافة إلى كونها تمثل مركزاً لانطلاق الحجاج(5)، وتذكر بعض الروايات أن شنقيط بنيت سنة 160 هـ - 776م، ولم يهتم أهلها بالتدوين بل اهتموا بالحفظ وهي عادة أهل موريتانيا، ذكرها مرتضى الزبيدي (1145-1205 هـ - 1732-1791م) في كتابه تاج العروس من جواهر القاموس فقال: "شنقيط بالكسر، مدينة من أعمال السوس الأقصى بالمغرب". (6)

• الأسباب التي دعت الموريتانيين إلى الرحلة:

[1] أداء فريضة الحج... تعلقت قلوب الكثيرين من أهل موريتانيا بأداء فريضة الحج، وتعلقهم بزيارة الأماكن المقدسة.

[2] ميلهم إلى الترحال وحياة الصحراء.

[3] رغبتهم بالعلم ولقاء العلماء.

[4] ارتباطهم الروحي والحضاري بالشرق فأكثر القبائل الموريتانية لها جذور في المشرق الإسلامي.

• الطريق إلى الحج:

كانت الطريق في كثير من الأحيان غير آمنة بسبب اللصوص وقطاع الطرق شديدة المخاطر والأهوال، بالإضافة إلى أن بلدان الشمال الأفريقي مرت بأزمات اقتصادية ومجاعات وحتى أوبئة مثل الطاعون وغيرها تسببت في موت المئات والآلاف من السكان، ونتيجة لهذه المشاق والمخاطر أفتى بعض علماء موريتانيا بحرمة الحج معللين هذه الفتوى بانقطاع السبيل والمخاطر المحدقة بالمسافر من قبل اللصوص وقطاع الطرق، ومن هؤلاء العلماء محنض باب الديماني (1185-1277 هـ - 1771-1860م) والشيخ محمد المامي الشنقيطي (1206-1282 هـ - 1792-1866م).

اشتهرت مدينة ولاتة قبل شنقيط في ركب الحج وهي من أهم المراكز الحضارية في غرب أفريقيا تأسست في القرن الثاني الهجري - الثامن الميلادي، وقد أورد المؤرخ الولاتي البرتلي (1140-1219 هـ ـ 1748-1805م) في كتابه فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور عند ترجمته للعالم أحمد بن الحاج التواتي الغلاوي (ت 1157 هـ - 1744م) حيث قال عنه: (حج مرات بيت الله الحرام وهو شيخ الركب من أرضنا)، وهذا العالم الجليل توفى ودفن بمدينة فزان بليبيا عند عودته من المشرق.(7)

كان تعلق أهل شنقيط وولاتة ببلاد الحرمين كبيراً، وقد يحج أهل الدار كلهم لا يبقى فيها أحد من شدة اعتنائهم بالحج، وكان يقدر عدد الحجاج سنوياً في تلك الفترة ما بين (3000-5000) ألاف، وهو رقم كبير إذا قورن بعدد الحجاج اليوم، وكان يعرف ركبهم بالركب الشنقيطي. (8)

تجدر الإشارة إلى أن بلاد موريتانيا (شنقيط) شهدت ازدهاراً للأدب والثقافة والمعارف في مختلف العلوم الإسلامية تجلت في كثرة الشعراء والمؤلفات في الوقت الذي شهد فيه العالم العربي انحطاطاً وجموداً فكرياً بسبب السيطرة العثمانية، فكانت هناك المراكز الحضارية الموريتانية (شنقيط ـ ولاتة ـ أوداغست ـ وادان ـ أدرار).(9)

• منطقة طرابلس:

عرفت منطقة طرابلس بهذا الاسم منذ القدم، وخاصة في العصر الإسلامي، ولذلك ورد ذكرها في كتب الجغرافيين والرحالة بكثرة لأنها كانت جسراً للتواصل بين المشرق والمغرب  وكان كثير من الرحالة يقيمون بها ويلتقون بعلمائها.

امتدح كثير من الرحالة والمؤرخين الذين مروا بطرابلس الشعب الليبي وكرمه وجوده، وبأن هذه البلاد هي بلاد العلم والصالحين والمجاهدين.

لقد كانت بلادنا بلد الجود والكرم فأحد الرحالة الذين مروا بهذه البلاد يذكر كرم أهل منطقة زليتن (ظلتين) فيقول عنهم بأنهم قدموا لهم أربعين (40) قصعة بازين، بالإضافة إلى الدلاع والتمور، وكانت الناس في القديم مترابطة تسودها المحبة والود والتعاون فالبيئة كانت مختلفة عما هي عليه اليوم فالشوارع ضيقة والبيوت كانت صغيرة ومتلاصقة، ووسيلة النقل كانت الحيوانات من جمال وحمير وخيول، وكانت لرجل الدين والعلم مكانة كبيرة بين الناس أكثر من الحاكم أو الوالي نفسه حيث يقول أحد القناصل الأوروبيين في عهد يوسف باشا القرمانلي (1795-1832م) واصفاً ذلك إن أحد العلماء كان يركب على حمار أشهب، وكان الناس محيطين به، وكانت له مكانة وشعبية كبيرة عند الناس أكثر من مكانة الباشا نفسه الذي لا يلتفت إليه أحد.

كانت الناس ذلك الزمان تحترم مكانة العالم والفقيه، وأن العلماء في طرابلس كان يلجأ إليهم المظلومون والمطاردون فلا تستطيع السلطة الحاكمة الوصول إليهم بما تملك من قوة وجيش وشرطة، أما اليوم فأنظر إلى مكانة هؤلاء العلماء والفقهاء، والسبب هو تغير عقلية الناس.

وقد اشتهرت بلادنا (ليبيا) بأنها بلد العلم والمعرفة والكرم والجود، وبلد الصالحين والعلماء، ولذلك حرص الرحالة والجغرافيون والحجاج المغاربة على التوقف بها، ولقاء علمائها وزيارة أضرحة وقبور الصالحين من أهلها، وزيارة مساجدها وسلاطينها وأمرائها.

• بعض ما ذكره الرحالة عن طرابلس وأهلها:

يقول الرحالة التجاني وكان قد زار ليبيا سنة 706 هـ - 1307م عن العالم والفقيه أبن الأجدابي (ت بعد 470 هـ - 1078م): "كفي لهذا الرجل العظيم القدر فخراً لهذا القطر"(10)، فقد كان من العلماء الكبار، وله رسالة في علم الحول كانت تدرس بأوروبا في العصور الوسطى، ألفها بسبب أن أحد العلماء أهانه فقال له: "أسكت يا أحول فلا استدعيت ولا استفتيت".

ولكن للأسف نحن شعب لا نقرأ تاريخنا، ولا نفخر ونعتز بعلمائنا ومجاهدينا، ويحضرني في هذا المجال أن أحد الأساتذة العراقيين كان يفخر ويعتز بقومه ويقول: نحن العراقيين أصحاب ثورة العشرين فقلت له: أنت ربما لا تعلم لقد دارت في بلادنا ـ ليبيا ـ مئات المعارك الطاحنة من الصباح حتى المساء بين المجاهدين والإيطاليين، فلم يحارب ويجاهد أي شعب عربي أكثر مما جاهد الليبيون من حيث (كثرة المعارك).

ويقول المؤرخ أبو عبيد البكري (ت 487 هـ - 1094م) في كتابه المسالك والممالك عن أهل طرابلس "إن أهل طرابلس من أحسن خلق الله معاشرة، وأجودهم معاملة، وأبرهم بغريب.(11)

ويذكر الإمام سحنون بن سعيد (160-240 هـ - 777-854م) بعد عودته من طرابلس عندما سئل عن أهلها فقال "رأيت بطرابلس رجالاً ما الفضيل بن عياض أفضل منهم"(12)، والفضيل هذا كان من أشهر العباد والزهاد في التاريخ الإسلامي حتى لقب بعابد الحرمين، وقال عنه عبد الله بن المبارك: "ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل". (13)

وهذا الرحالة الأندلسي القلصادي (815-891 هـ - 1412-1486م) يقول عن طرابلس وكان قد زارها سنة 850 هـ - 1446م "وبلغنا طرابلس فنزلنا وتلاقينا مع بعض الأصدقاء وحبونا بالبر والإكرام"(14).

وأنظر إلى قول الرحالة العياشي (1037-1090 هـ ـ - 1627-1679م) عن أهل طرابلس،  وكان قد زارها سنة 1059 هـ - 1649م حيث ذكر: 

"جمع لأهلها من زكاء الأوصاف وجميل الأنصاف، وسماحة على المعتاد زائدة، وعلى المتعافين بأنواع المبرة عائدة، لا تكاد تسمع من واحد  من أهلها لغواً إلا سلاماً ولو لمن استحق ملاماً، سيما مع الحجاج الواردين، ومن انتسب إلى الخير من الفقراء العابدين، فإنهم يبالغون في إكرامهم، ولا يألون جهداً في أفضالهم عليهم  وأنعامهم".(15) فما أجمل هذا الوصف لأجدادنا في الماضي لا تسمع منهم كلاماً قبيحاً أبداً حتى لمن استحق العقاب والتوبيخ فياله من وصف جميل.

وقال الرحالة الناصري (ت 1239 هـ - 1823م) الذي زارها سنة 1211 هـ - 1796م "والحاصل مدح البلد وأهلها وحسن أخلاقهم وجودهم سارت به الركبان وعلم علمائها ملأ الخافقان، وفضلهم من شمس الضحى أظهر وأوضح".(16)

وقال عن كرم وجود أهل ليبيا بعد مروره بدرنة وبنغازي وطرابلس الرحالة الموريتاني ابن طوير الجنة الذي زارها سنة 1247 هـ - 1831م "وأما ما فعل معنا أهل...... درنة وأهل بنغازي وأهل طرابلس من أنواع الإكرام وأنواع الإنعام فلا تحصيه الدفاتر، وتقصر عن عده الأقلام والمحابر".(17)

• صلات بلاد شنقيط بطرابلس عن طريق الكتب:

يعتبر كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل من أهم أواصر الصلات والعلاقات بين بلاد شنقيط وطرابلس فمؤلفه هو محمد الحطاب الطرابلسي (902 -954 هـ - 1496-1547م) من أهل طرابلس عاش ودفن بها، ويعتبر كتابه من أشهر المؤلفات في الفقة المالكي انتشر عند أهل موريتانيا انتشاراً كبيراً فأقبلوا عليه يحفظونه ويتدارسونه في المحاضر، ويعتبر مصدرهم الأساسي لفهم وتعلم مذهب الإمام مالك.

يعتبر الحطاب من أشهر العلماء في طرابلس في عصره فقهاً وعقلاً، وكانت له مكانة كبيرة بين علماء الحجاز، حيث وصف بأنه أخر علماء المالكية وقد تتلمذ على كبار علماء المشرق من أمثال أبن حجر والسيوطي والسخاوي والقلقشندي والصاغاني والغابوني وغيرهم من العلماء الكبار. وله عدة مؤلفات، وتفسير للقرأن الكريم ومن أشهر مؤلفاته كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل.

وقد بلغت شروح كتاب مختصر خليل أكثر من (100) شرح أفضلها هو كتاب مواهب الجليل للحطاب الطرابلسي وهو شرح وتعليق وتوضيح لكتاب خليل بن إسحاق المالكي ( ت 776 هـ - 1374م)، وهو أشهر المختصرات للفقة المالكي، ويشهد لذلك عناية العلماء به، وعكوف طلاب العلم على دراسته وحفظه وتعلمه، فلا تجد أي طالب من طلاب العلم في المذهب المالكي لا يعرف كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل.

• رحلة ابن طوير الجنة:

ولد هذا الرحالة بمدينة وادان وهي من أشهر المراكز الثقافية والعلمية ببلاد شنقيط في أسرة علمية، وبعد أن حفظ القرآن الكريم، ونبغ في مختلف العلوم الإسلامية الموجودة في عصره آنذاك حيث لازم العلماء لمدة (22) عاماً، وأخذ عنهم، وكان فقيهاً واسع الإطلاع والثقافة، وكان متصوفاً زاهداً يحسن الاعتقاد في الصالحين، وخرج من بلدته قاصداً بيت الله الحرام يوم 7 من جمادى الأولى 1245 هـ - 3-11-1829م، ومن أهم كتبه رحلته التي منحته الشهرة وهي المسماة والمعنونة برحلة (المنى والمنة).(18)

قام أبن طوير الجنة برحلته إلى ليبيا أواخر شهر جمادى الأخرة سنة 1247 هـ - نوفمبر 1831م بعد عودته من أداء فريضة الحج صحبة الركب المصري قاصداً مدينة درنة ثم طرابلس حيث اتصل فيها بحاكم ليبيا يوسف باشا القرمانلي الذي ذكر أنه استقبله بنفسه استقبالاً كبيراً، كما التقى بعدد من رجالات العلم والسياسة في ذلك الوقت من بينهم العالم والفقيه أحمد أبو طبل الورفلي (1150-1252 هـ - 1738-1837م).(19)

عندما وصل هذا الرحالة إلى مدينة درنة وبرقة ذكر في رحلته بأن أهل هاتين المدينتين طلبوا منه تأليف كتاب في الرد على فرقة كانت موجودة عندهم، وصفهم بأنهم من المعتزلة،  يفعلون كثيراً من أنواع البدع، فقام بتأليف كتاب أسماه (فيض المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان)، وذكر في رحلته أنه بعد تأليف هذا الكتاب رجع أهل درنة عن الانخراط في زمرة تلك المبتدعة، كما ذكر في رحلته أن هذا الكتاب الذي ألفه انتشر في جميع أنحاء المغرب حتى وصل إلى المغرب الأقصى، ويبدو للباحث أنه ألف رسالة في الفقة وليست كتاباً للرد عليهم إذ أنه لم يبق في درنة وبنغازي إلا بضعة شهور.(20)

ويبدو للباحث كذلك أن من أسماهم ابن طوير الجنة بالمعتزلة هم عبارة عن الصوفية الذين انتشر عندهم في ذلك الزمان الشطح والرقص والصياح والتواجد ولطم الخدود وهز الرؤوس بالعنق في حالة الذكر كما يزعمون، وهو ما يسمى بالحضرة عند الليبيين، وهؤلاء الصوفية يزعمون رؤيتهم لله وللنبي، ويؤمنون بالكرامات فبين لهم ابن طوير الجنة أن هذه الكرامات تقع للمسلم والكافر، وقد ظهر في تلك الفترة الكثير من علماء موريتانيا ممن أنكروا هذه البدع.

وعندما دخل طرابلس ذكر ابن طوير الجنة أن هناك أحد العلماء لم يسمي لنا أسمه حاول الرد على كتابه (فيض المنان) لكن عالم طرابلس أحمد أبو طبل الورفلي قال لذلك العالم: أنك لا تسطتيع الرد لأن هذا الكتاب لا يخالف السنة النبوية، ويضيف أنه اجتمع في طرابلس بالعالم أحمد أبو طبل الورفلي، ووصفه بأنه (عالم سني جليل).(21)

تجدر الإشارة إلى أن العالم أحمد الطبولي الورفلي كان من أشهر العلماء في بني وليد وطرابلس، وكانت له مكانة عظيمة عند القرمانليين وخاصة عند يوسف باشا، تخرج الطبولي من الأزهر، وأخذ العلم عن كبار العلماء بالمشرق أمثال مرتضى الزبيدي ومحمد الكانمي وشمس الدين الحنفي والدردير والدسوقي وغيرهم، وكانت تشد إليه الرحال فيما أشكل من مسائل العلم، واشتهر بحبه للكتب وجمعها حتى أن الرحالة المغربي الفاسي الذي زار طرابلس سنة 1211 هـ - 1797م تمنى لقاءه والإطلاع على مكتبته التي كانت ذات شهرة واسعة.

وذكر ابن طوير الجنة أن سلطان طرابلس يوسف باشا القرمانلي تلقاهم بالفرح والسرور والتبجيل والإكرام بما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال: "فصار أهل دولته كلهم يخدوموننا أحراراً أو عبيداً في حسن المعاملة".(22) وأضاف في رحلته إن أهل طرابلس وعلمائها وأئمة مساجدها أخبروه عن مدينة وادان، وأنهم لا يزالون يسمعون منذ القدم مقولة مشهورة وهي (العلم واداني والتمر فزاني والعبد سوداني).(23) ثم أضاف عن طرابلس وعلمائها "رأينا في طرابلس أيضاً علماء أجلاء ورجالاً ملاحاً وأهل صلاح..... ومن جملة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الجميلة والخصال الجليلة قاضي محروسة طرابلس فنعم الرجل ونعم العالم الأديب القاضي العادل ذو المودة الصافية".(24) 

كما وصف حاله بعد إقامته في طرابلس حيث قال أنهم كانوا "مكرمون منعمون مبجلون مجلون".(25)

والخلاصة أن الصلات بين أهل موريتانيا وليبيا لا تعد ولا تحصى سواء بشمال البلاد أو بجنوبها فبلاد العالم الإسلامي كانت واحدة، وكان الناس مترابطين تجمعهم صلات النسب والمصاهرة والعلاقات الاجتماعية، ولم تكن تفصل بينهم الفواصل إلا بعد مجيء الاستعمار.

لقد كان أولئك الرحالة والعلماء والفقهاء والسفراء من أمة العروبة والإسلام مشاعل خير وهداية ومحبة إينما حلوا، وصدق فيهم قول الشاعر:

كانوا ليوثاً لا يرام حماهم ........ في كل ملحمة وكل هياج
فانظر إلى آثارهم تلقى لهم ......... علماً بكل ثنية وفجاج

والله الموفق

محمود عمار المعـلول

كاتب وباحث ليبي

الهوامش:

(1) أنظر ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، قدم له وحققه ووضع خرائطه وفهارسه، عبد الهادي التازي، 1997م، ص 171، وقد وصل ابن بطوطة إلى مدينة طرابلس يوم 14 ذي الحجة 725 هـ - 20-11-1325م.

(2) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت ـ لبنان، (د ـ ت)، ص 278-279.
(3) الحسن الشاهدي، أدب الرحلة بالمغرب في العصر المريني، منشورات عكاظ، 1990م،   ج1، ص 67.
(4) محمد المنوني، من حديث الركب المغربي، تطوان، 1953م، ص 8 ـ 10.
(5) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت ـ لبنان، (د ـ ت)، ص 278-279.

(6) مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جوتهر القاموس، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية، بيروت. لبنان، 1385 هـ، ج 19، ص 419.

(7) البرتلي الولاتي، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني، ومحمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت . لبنان، ط 1، 1981م، ص 48 ـ 50.

(8) حماه الله ولد السلام، رحلات الحج من موريتانيا (بلاد شنقيط) وإسهامها في التواصل المشرقي المغربي، المؤتمر الدولي لأدب الرحالة العرب والمسلمين، الذي انعقد بقطر خلال الفترة (5 ـ 9-12-2010م).

(9) أحمد ولد حبيب الله، تاريخ الأدب الموريتاني، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996م، ص 70ـ 72.
(10) التجاني، رحلة التجاني، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1981م، ص 28.
(11) البكري، المسالك والممالك، دار الغرب الإسلامي، 1992م، ج 2، ص 652.

(12) الحسيم الورتلاني، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار، (رحلة) تحقيق محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1908م، ص 96.
(13) الذهبي، تاريخ الإسلام  ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق بشار عواد معرزف، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2003م، ج 4، ص798.
(14) القلصادي، رحلة القصادي، دراسة وتحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، ص 324.
(15) العياشي، الرحلة العياشية، تحقيق وتقديم سعيد الفاضلي وسليمان القرشي، دار السويدي، أبوظبي، 2006م، ج 1، ص 523.
(16) أحمد بن ناصر الدرعي، الرحلة الناصرية، حققها وقدم لها عبد الحفيظ ملوكي، دار السويدي، أبوظبي، 2011 م، ص 78.
(17) ابن طوير الجنة، رحلة المنى والمنة، تحقيق حماه الله ولد السالم، دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، 2013 م، ص 180.
(18) ابن طوير الجنة، مصدر سابق، ص 8.
(19) ابن طوير الجنة، مصدر سابق، ص 177 ـ 190.
(20) ابن طوير الجنة، مصدر سابق، ص 177 ـ 190.
(21) أبن طوير الجنة، مصدر سابق، ص 183 .
(22) ابن طوير الجنة، المصدر السابق، ص 183.
(23) أبن طوير الجنة، المصدر السابق، ص 192.

(24) أبن طوير الجنة، مصدر سابق، ص 192.
(25) أبن طوير الجنة، المصدر السابق، ص 193.