عرفت ليبيا منذ نهاية أحداث 2011، سيطرة الجماعات المتطرفة على مقاليد الأمور في عدد من مدنها، تحت مسميات وشعارات مختلفة من حيث الشكل الظاهر، إلا أنها تتفق جميعا في مضمونها، ومشروعها ضمن ما عرف بـ "تيار الإسلام السياسي"، وهو ما مهد لتنامي وجود مختلف التنظيمات "الإرهابية" كالقاعدة، وأنصار الشريعة، ومجالس الشورى، وغيرها، وفي شهر نوفمبر من سنة 2014 ظهر اسم تنظيم "داعش" لأول مرة في ليبيا، عندما أظهر مقطع مرئي مجموعة من المقاتلين في مدينة درنة شرقي البلاد، وهم يبايعون زعيم تنظيم (الدولة الإسلامية بالعراق والشام) أبوبكر البغدادي، ليعلن التنظيم عن وجوده في ليبيا، ويتمدد بعد ذلك مستغلا للوضع الأمني الضعيف، لينشئ ثلاثة فروع:(برقة، وفزان، طرابلس).

سرت كانت البداية

وظهر التنظيم بشكل حقيقي عندما تمكن من فرض سيطرته على مدينة سرت، وإعلانها إمارة إسلامية، ثم شكل فيها مخططه تحت مسمى "الدولة الإسلامية"، وهو ما تعزز بقبول "البغدادي" للمبايعات التي وصلته من عدة أماكن من بينها ليبيا. في الوقت الذي عانى فيه عناصر التنظيم في مدينة درنة من خسائر نتيجة منافسته مع مجلس شورى درنة، وخروجهم من المدينة، كان عناصره ينتشرون ويتوسعون في مدينة سرت ليعلنوا سيطرتهم عليها وعلى المناطق المجاورة لها في منتصف سنة 2015.

بمجرد سيطرة التنظيم على مدينة سرت وتفرده بمقاليد الأمور بها، أسس التنظيم بشكل شبه حقيقي ما اسماه "الدولة الإسلامية"  بوضع مؤسسات تسيير الأعمال في المدينة والمناطق المحيطة بها تحت إمرة مجموعة من عناصره الذين كانوا في الغالب من أعضاء تنظيم القاعدة، أو الجماعة الليبية المقاتلة، أو أنصار الشريعة، لتتحول المدينة من مدينة عصرية إلى "إيالة" مستنسخة من عصور لا حضور لها إلا في ذاكرة التاريخ.

وعاش أبناء مدينة سرت وضعا مأساويا تحت سيطرة التنظيم، حيث أصبحت عقوبة القتل "تعزيرا" أمام الملأ أمرا يكاد يكون من المراسم الأسبوعية، في حق كل من يختلف وتعاليم "مفتي" التنظيم، أو من يمارس نشاطا من شأنه كشف حقيقة ما وراء "الدولة"، فكان الضحايا من الشيوخ، ومن الشباب الرافضين لتواجد التنظيم، وجماعة السلف، وأفراد القوات المسلحة، والأجهزة الأمنية، وغيرهم من شرائح المجتمع المختلفة.

إنتفاضة أغسطس

وبمجرد السيطرة على المدينة قام التنظيم بتفكيك كل التشكيلات العسكرية، وطالب عناصرها بما اسماه "الاستتابة"، ولم تتبقى من كل التشكيلات والكتائب المسلحة في المدينة سوى، الكتيبة 136 مشاة، وتتكون من السلفيين فما كان من عناصر التنظيم إلا التضييق عليهم وملاحقة الشيوخ السلفيين الذين كانوا يكشفون حقيقة التنظيم ومخالفته لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، عبر المسجد الوحيد الذي تمكنوا من الاحتفاظ به، وهو مسجد قرطبة في الحي الثالث بالمدينة، والذي كان يؤمه الشيخ خالد بن رجب، والذي تمت تصفيته في 10أغسطس 2015، لتندلع بذلك انتفاضة شباب المنطقة ضد عناصر التنظيم، ويدخلون معهم في مواجهة دامت ثلاثة أيام، تكبد فيها "داعش" خسائر فادحة، ما اضطره لطلب المدد من مواقعه الأخرى شرقي البلاد، ليتمكن من إخماد الانتفاضة ويفرض سيطرته من جديد على المدينة ويباشر ممارسة نشاطه في القبض والقتل والتغييب، حيث وثقت مصادر محلية مقتل ثمانية شباب من أبناء المدينة، وتغييب العشرات الذين لايزال مصيرهم مجهول إلى اليوم على الرغم من خروج التنظيم من المدينة.

وبقي أهل مدينة سرت والمناطق المحيطة بها يتعايشون مع سيطرة التنظيم، ويحاولون التعاطي مع متطلباته، حتى شهر مايو من سنة 2016، بدأت عملية تحرير المدينة من قبل قوات محسوبة على المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فيما عرف بـ "عملية البنيان المرصوص"، والتي لاقت تأييد عالمي ودعم عسكري أمريكي مباشر، حيث شارك سلاح الجو الأمريكي في ضرب عناصر التنظيم، ومنح قوات الرئاسي غطاء جويا، جعلها تتمكن من إخراج التنظيم من المدينة، بعد تم قتل معظم مقاتليه وهروب عدد من قياداته، وتسلل مجموعات من عناصره إلى خارج المدينة.

إلى جانب ذلك تم القبض على عدد من قيادات وعناصر التنظيم، وتم التحقيق معهم في مدينتي مصراتة، وطرابلس، توصلت النيابة العامة في طرابلس على كم كبير من المعلومات عن التنظيم وممارساته، وجرائمه، وهو ما أعلن عنه رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام المكلف الصديق الصور، في مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الليبية طرابلس يوم الخميس 28 سبتمبر 2017، والذي كشف فيه عن بعض الجرائم التي أقدم عناصر التنظيم على اقترافها.

ولعل أهم نتائج تلك التحقيقات وما أفضى به "الصور" هو الكشف عن تفاصيل "مجزرة الأقباط" بمدينة سرت، باعتبار أن نتائج التحقيقات كشفت تفاصيل العملية ومن قام بها، وموقع تنفيذها، ومكان دفن الضحايا، إضافة لبعض الأحداث الأخرى مثل عمليات خطف وتصفية بعض الأجانب في الحقول النفطية، وقتل بعض المهاجرين و"سبي" نساءهم.  

إضافة للقضايا والجرائم المرتبطة مباشرة بعناصر التنظيم في مدينة سرت وغيرها في ليبيا، حمل "الصور" داعش مسؤولية الاغتيالات والتصفيات والتفجيرات في البلاد، والتي تجاوزت وفقا لإفادة الصور نفسه (200) واقعة، معلنا أنه أصدر (800) مذكرة قبض في حق أشخاص قال انهم مدانون بتنفيذ عمليات إرهابية.

وعلى الرغم من أهمية المعلومات التي أوردها رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام، والتي ألصقت في أغلبها لعناصر تنظيم داعش، رأى مراقبون ومحللون، أن ما تم الإعلان عنه لم يأتي بجديد باعتبار أن معظم العمليات تم الإعلان عنها من قبل التنظيم نفسه عبر منافذه الإعلامية التي يعلن فيها عن تبنيه للعمليا "الإرهابية" التي يقوم بها، كما اعتبر البعض أن الحقائق المعلنة منقوصة مالم تتناول حقيقة تسرب وخروج عدد من قيادات التنظيم بشكل آمن خلال فترة حصار "قوات البنيان المرصوص" لمدينة سرت، ولم تفسر الظهور المتكرر لعناصر التنظيم بشكل شبه دوري في عدة مناطق بالقرب من مدينة سرت.

أين ستكون النهاية؟

إذاً هذه قصة ولادة تنظيم "داعش" وظهوره في ليبيا، وترعرعه في مدينة سرت، ومواجهته وتفيكيك مكونات "دولته" فيها، وقد تم تحديدها ومعرفة بداياتها، ونهايات بعض تفاصيلها، إلا أن ما لم يتم الكشف عنه وتحديده هو متى ستكون نهاية التنظيم، وآخر أماكن تواجده، وما هي القوى "الكبرى" التي توجه تحركاته، وتقف وراء دعمه وتمويله.