كان الحبر الذي وقع به قائد الجيش الليبي، خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، اتفاقهما، لم يجف بعد في قصر لا سيل-سان-كلو في باريس، عندما أعلنت إيطاليا عزمها التدخل العسكري بحراً في ليبيا. فجأة تبدد الوفاق الذي ساد في باريس وعاد الانقسام واضحاً بسبب سياسة روما.

* بعد يوم واحد من الاتفاق الباريسي طار السراج إلى روما، وتحديداً إلى مقر رئاسة الوزراء في قصر كيجي للقاء رئيس الحكومة، باولو جينتيلوني. لم يمضي وقت طويل حتى خرج جينتيلوني للصحافيين مصرحاً بأن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، طلب دعماً بحرياً إيطاليا في المياه الليبية للتصدي لمهربي البشر. وكاشفاً عن أن “السرّاج قد بعث له قبل بضعة أيام رسالة يطلب فيها دعماً فنياً من جانب الحكومة الايطالية، من خلال وحدات بحرية في المعركة المشتركة لمكافحة الاتجار بالبشر”، وذلك “دعماً للالتزام المشترك القائم في المياه الليبية، من خلال وحدات بحرية إيطالية”. كانت صدفةً غريبةً جداً أن يتزامن الإعلان الإيطالي مع الاتفاق الفرنسي. بدى من الواضح أن الإيطاليين لم يعجبهم ما توصل له الرئيس الفرنسي الجديد في جمع الفرقاء. فجينتيلوني الذي علق على اجتماع باريس بالقول: " آمل أن تكون النتائج المترتبة أكبر من تلك التي تم التوصل إليها خلال اللقاء السابق في أبو ظبي، قبل شهرين" لم ينسى أن يذكر بما أسماه بـ” الخيار الشجاع المتمثل بإرسال سفيرنا إلى طرابلس، حضورنا العسكري، المستشفى الميداني، عمل المخابرات والتعاون مع خفر السواحل”، معربا عن “الأمل بأن تتم خطوات أخرى على أساس طلب (فائز) السرّاج إرسال إيطاليا لوحدات بحرية لمكافحة الاتجار بالبشر”.

* بعد يومين فقط من الاتفاق الباريسي أعلن رئيس الحكومة الإيطالية عن تبرمه من الوساطة الفرنسية بعد أن قال: إن “لدينا اجندتنا بشأن ليبيا، وإن شاء الآخرون دعمها فهذا أمر حسن. سنبقى في الوقت الراهن على أجندتنا”، بشأن المسألة الليبية، “التي تُلزمنا بمجال استقبال المهاجرين، ولن نتخلى عنها”، وأن “كل مبادرات من بلدان أخرى تدعم هذه الأجندة هي موضع ترحيب”، لكن “من الواضح أن هذه هي الخطوات والقرارات، فلا يمكن حل المشاكل بطريقة مختلفة”. كانت إيطاليا وما زلت تخشى تمدد النفوذ الفرنسي في ليبيا، مستعمرته السابقة، وعمقها الأمني والاقتصادي.

* يريد الإيطاليون حسم ملف الهجرة بأيديهم دون أن تكون للدولة الليبية أية خيارات. فقرروا التدخل المباشر، كما أنهم قد غنموا خلال السنوات الماضية، من دعمهم للحكومات المتعاقبة في المنطقة الغربية كثيراً من المشاريع في القطاع النفطي، ولا يريدون للشركات الفرنسية المنافسة في القطاع أن تقضم من حصتهم نصيباً. فخلال نهاية الشهر وبالتزامن مع الوساطة الفرنسية والإعلان على التدخل البحري، بذرائع مقاومة الهجرة غير النظامية، طار إلى ليبيا قادماً من روما مدير العملاق النفطي الإيطالي (شركة إيني) للقاء السراج ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، وتمتين حضور هذا المجمع النفطي الكبير في الحقول النفطية الليبية. وجرى خلال اللقاء بحث المرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل بحر السلام، واحد من أكبر حقول النفط في ليبيا ويعتبر مصدرا هاما من مصادر إمدادات الغاز لخط غرين ستريم. ومن المزمع إنجاز خلال هذه المرحلة 10 بئرا بحريا، 9 منها تم حفرها في عام 2016 وفازت مجموعة ايني بعقد توريد وتركيب الهياكل. ومن المقرر البدء في انتاج الغاز في عام 2018. وليس غريباً أن تعلن "إيني" عن ارتفاع أرباحها الصافية خلال النصف الأول من العام الجاري إلى 983 مليون يورو، وذلك مقابل خسارة 829 مليون يورو في الفترة ذاتها من العام 2016. ويعود تواجد مجموعة ايني في ليبيا إلى عام 1959، حيث تنتج حاليا أكثر من 350 ألف برميل يوميا من النفط المكافئ. وتخشى "إيني" اليوم زحف مجموعة "طوطال" الفرنسية العملاقة، لذلك فهي تمارس ضغوطاً داخل الإدارة الإيطالية لمزيد مد النفوذ داخل ليبيا.

* في الضفة الأخرى حسم الفرنسيون خيارهم منذ قدوم الرئيس الجديد، إيمانويل ماكرون، في دعم المشير حفتر ومحاولة الجمع بينه وبين المجلس الرئاسي (صاحب الشرعية الدولية). فقد كنت السياسة الفرنسية خلال حكم الرئيس السابق فرانسوا هولاند منقسمة بين جهات مؤيدة للمشير حفتر وهي أساساً وزارة الدفاع بقيادة جون إيف لودريان، وقد وصل الدعم إلى الإمداد العسكري. وبين جهات داعمة للمجلس الرئاسي وللإسلاميين وأساساً مراكز القوى في الكي دورساي (وزارة الخارجية) في مقابل تذبذب سياسة الرئيس نفسه بين هذا وذاك. لكن مع ماركون بدت الصورة أوضح، فقد صرح الرجل في 21 يونيو الماضي بأن " فرنسا كانت مخطئة في شن حرب في ليبيا" وأمعن في تغير السياسة الخارجية الفرنسية تجاه ليبيا بأن عين وزير الدفاع السابق جون إيف لودريان، الداعم بقوة لحفتر، في منصب وزير الخارجية، والذي كان المهندس الحقيقي لاجتماع باريس، والذي يتبنى ضمنياً وجهة النظر المصرية للحل في ليبيا والتي تقوم على ركيزتين: لا حوار مع الجماعات الإرهابية وضرورة بناء جيش قوي وأجهزة أمنية فاعلة. لكن قوى متنفذة داخل المجلس الرئاسي، لا تريد حفتر في المشهد، ولها ارتباط قوي بالجماعات الإسلامية ونفوذ اقتصادي ومصالح، تدفع بها لدعم التدخل الإيطالي. والإيطاليون واعون بذلك جيداً فقد توجهوا لجني ثمار هذه الثغرات داخل المجلس.

*أخيراً، لا يبدو التدخل الإيطالي سواء وجهاً من أوجه الصراع الإيطالي الفرنسي الخفي على ليبيا وحولها وفيها. هذا الصراع التاريخي الذي انطلق منذ نهاية القرن التاسع عشر، عشية عزم القوى العظمى تقسيم مستعمرات جنوب المتوسط، وتواصل خلال أكثر من قرن بوتيرة مختلفة وحول أهداف كثيرة كان تتمحور حول الثروة والنفوذ. ولك يكن عود الطليان إلى ديارهم عود أحمدُ. كما لم تكن زيارتهم السابقة إلى ليبيا مجرد نزهة، بل غادروها بين جريح وقتيل.