في 14 يناير 2011 انتفض التونسيون ضد الفقر والتهميش الاجتماعي والسياسي مطالبين نظام الرئيس الأسبق بن علي آنذاك بتوفير التنمية والشغل والحق في المواطنة ليدوا أنفسهم يقفون بعد سبع سنوات لم تخل من الأزمات يقفون على مشارف انتفاضة ثانية تطالب بنفس المطالب بعد أن فشلت الحكومات الائتلافية في الاستجابة لمطالبهم.

ومن يختزل موجة الاحتجاجات التي تعصف بتونس خلال هذه الفترة في الانتفاض على رفع الحكومة للأسعار فإنه إما جاهل بالأوضاع العامة في تونس أو يفتقد للقراءة الموضوعية لتراكمات سبع سنوات عجاف لم يجن منها التونسيون سوى المزيد من التفقير والحرمان والتهميش الاجتماعي والسياسي باستثناء مسار ديمقراطي متعثر ومحفوف بعديد المخاطر حولته الأحزاب إلى غنائم سياسية.

لا تجاهر الطبقة السياسية سواء منها المؤتلفة في الحكم أو في المعارضة بأن موجة الاحتياجات الني اندلعت شرارتها بشكل مفاجئ في الجهات الداخلية المحرومة لتتوسع رقعتها وتشمل تونس العاصمة الخط الأمني الأحمر بأن موجة الاحتياجات تحولت إلى ما يشبه انتفاضة ثانية يطالب فيها غالبية التونسيين بالحق في المواطنة بما يعنيه ذلك من إشراكهم إشراكا حقيقيا وعمليا في صناعة القرار السياسي والتنموي.

ويشدد سياسيون وناشطون وخبراء في التنمية على ضرورة فهم الاحتياجات بناء على تراكمات تجربة السنوات السبع الماضية وما رافقها من إسقاطات لخيارات وبرامج غير واضحة الملامح ورؤى نخبة سياسية كانت قبل سقوط نظام بن علي تتحرك على هامش الخارطة الجيوسياسية كمعارضة راديكالية حالمة بإعادة رسم الخريطة بطريقة جذرية.

ومن المفيد هنا أن نشدد على أن تلك النخبة لم يكن لها دور يذكر في انتفاضة يناير المفاجئة التي قادها أهالي الجهات المحرومة من أبسط مرافق العيش الكريم ووجدت نفسها أمام طريق سالك إلى الحكم دون خالية من أي مشروع برامجي واضح.

ومن المفيد أيضا أن نشير إلى أن الراديكاليين من الإسلاميين واليساريين كانوا يحلمون باجتثاث دولة الاستقلال المدنية الي ركزها الزعيم الحبيب بورقيبة وبغرس دولة خلافة إسلامية أو دولة شيوعية متجهلين أن نظام بن علي نفسه كان يدير مؤسسات دولة قوية تعود نواتها الأولى إلى العام 1507 قادت مشروعا سياسيا وتنمويا حقق للتونسيين عديد المكاسب مهما كانت المؤاخذات المشروعة خاصة في جانبها الديمقراطي.

وهم اليوم يقفون، إسلاميين وعلمانيين ويساريين ووسطيين على مشارف أزمة هيكلية مرشحة لأكثر من احتمال جراء تداعيات تدني أدائهم سياسيا واجتماعيا وفشلهم في إدارة الشأن العام الذي لا يخلو من التعقيد وأيضا جراء مشهد سياسي متعدد فكريا وسياسيا يرفض من الأساس الخطاب الفضفاض والاستئصالي ولا يؤمن سوى بالبرامج الكفيلة لا بتحقيق أوهامهم وإنما الكفيلة بتوفير الحلول لمشاغل ومشكلات التونسيين.

مسار ديمقراطي متعثر وغير مستقر

يقر التونسيون بأن المكسب الوحيد الذي تحقق منذ انتفاضة يناير يتمثل العملية السياسية الديمقراطية وفي الحريات العامة سواء منها السياسية بما والمدنية بما فيه طبعا حرية الرأي والتعبير غير أنهم يقرون بالمقابل بأن المسار الديمقراطي ما هو إلى تجربة متعثرة ومحفوفة بعديد المخاطر نتيجة تدني أداء الأحزاب السياسية والخلافات العميقة التي تشقها سواء من حيث المرجعية أو من حيث الخيارات والتوجهات.

وفي الوقت الذي تتبنى فيه حركة النهضة الإسلامية مرجعية عقائدية إسلامية رغم فصلها العمل الدعوي عن النشاط السياسي تتبنى الأحزاب العلمانية مرجعية مدنية ملتبسة وغامضة تتراوح بين الإيديولوجيا الماركسية وبين مفهوم الوحدة الوطنية التي قادت على أساسها دولة الاستقلال مشروع التحديث الاجتماعي والسياسي.

يفوق عدد الأحزاب في تونس المئة حزب منها ما هو إسلامي ومنها ما هو علماني ومنها ما هو قومي ومنها ما هو وسطي ومنها ما هو اتخذت الوقوف في منزلة تقع بين المنزلتين إما يسار وسط أو لبرالي يحاول المزج الأعمى بين الهوية العربية الإسلامية وبين مفهوم الإيديولوجيا العلمانية القادمة من وراء البحر الأبيض المتوسط.

غير أن غالبية الأحزاب لا تعدو أن تكون سوى حبر على الورق إذ لا ينشط منها سوى عشرة أحزاب من بينها ما يصنف في خانة الأحزاب الكبرى مثل نداء تونس وحركة النهضة ومنها ما يصنف في خانة الأحزاب الصغرى مثل حزب آفاق تونس والحزب الجمهوري وحزب المسار والجبهة الشعبية وهي عبارة عن ائتلاف يساري.

وعلى الرغم من استصدار دستور يناير 2014 الذي يعد المكسب الثاني للتونسيين على الهنات ونقاط الضعف التي تضمنها وحدد فيه الخيارات والتوجهات الاستراتيجية بما فيها مدنية الدولة ومدنية العملية السياسية والحريات الأساسية فإنه لم يضمن لتونس انتهاج تجربة سياسية ديمقراطية متينة مشابهة للديمقراطيات العريقة.

وبعيدا عن تجربة حكومة الترويكا التي كانت تقودها حركة النهضة برئاسة حمادي الجبالي أولا ثم برئاسة علي لعريض ثانيا حالمة بتحويل تونس إلى دولة خلافة إسلامية وفشلت في إدارة مؤسسات الدولة وفي إدارة الشأن العام حتى أنها زجت بالبلاد في أزمة خانقة أجبرتها على التنحي من الحكم، بدت الحكومات الائتلافية التي تعاقبت على الحكم في تونس واجهتها قوة منفتحة على الخارطة السياسية وباطنها ضعف ووهن ينتهج سياسات خالية أي رؤية برامجية تقوده أياد مرتعشة مصابة بالرهاب السياسي.

تأسس المسار الانتقالي الديمقراطي التونسي منذ البداية على نوع من الهشاشة السياسية والضبابية البرامجية المرجعية بعد أن اختار الباجي قائد السبسي مؤسس نداء تونس في صائفة 2012 التحالف مع راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ويتفقا على قيادة الحكم الائتلافي مع عدد من الأحزاب اللبرالية الصغرى في مسعى إلى تأمين الاستقرار الحكومي والسياسي والاجتماعي أولا وفي مسعى إلى التشاركية الديمقراطية ثانيا.

وبمعنى سياسي عميق تأسست العملية السياسية الديمقراطية منذ بدايتها على الخطأ إذ استحال على حكام تونس الجدد والمتمرنين على الحكم صناعة تجربة ديمقراطية قوية تحظى بالثقة الشعبية والسياسية نتيجة هيمنة الحزبين الكبيرين على المسار الانتقالي واحتكارهما لمراكز القرار السياسي والإداري.

وحوّل كل من النداء والنهضة العملية السياسية الديمقراطية إلى ما يشبه الغنيمة يتقاسمان فيما بينهما عائدتها لا فقط على حساب الأحزاب الصغرة والمعارضة الممثلة أساس في الجبهة الشعبية وإنما أيضا على حساب غالبية التونسيين حتى أن المراقبين باتوا يصفون الحكم الائتلافي بحكومة النداء والنهضة لا أكثر ولا أقل.

وقاد استئثار الحليفان بالحكم بما في ذلك زرع أنصارهما في مؤسسات الدولة السياسية والإدارية إلى استضعاف الأحزاب الصغرى التي كثيرا ما اتخذ سخطها على النداء والنهضة يتخذ نسقا تصاعديا مشددة على أنها تتعرض إلى التهميش الممنهج بطريقة قاسية وجاحدة تتناقض تناقضا كليا مع المفهوم الصحيح للتشاركية الديمقراطية.

وفي ظل استغاثة الأحزاب الصغرى من سياسة الاستضعاف والتهميش من مراكز صناعة القرار التي قادت إلى أكثر من أزمة لاذ الحزبين المتحالفين بالتوافق على الاستنجاد بمفهوم الوحدة الوطنية، وهو مفهوم ركزه الحبيب بورقيبة غداة استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي العام 1956، ليتم تركيز تركيبة حكومية منذ عام تقريبا تحت عنوان "حكومة الوحدة الوطنية" برئاسة القيادي في النداء يوسف الشاهد.

غير أن هكذا خيار لم يساعد لا على الرفع من أداء الحكومة التي بدت بالنسبة لغالبية التونسيين تنتهج سياسة الأيادي المرتعشة في مواجهة الملفات الحارقة سياسيا وتنمويا وأمنيا ولا على تثبيت التشاركية الديمقراطية على أرض الواقع ما قاد بعدد من الأحزاب وفي مقدمتها الجمهوري وآفاق تونس من الانسحاب من الحكومة مطالبين بديمقراطية شفافة ونزيهة والقطع مع الديمقراطية المغشوشة التي يستضعف فيها القوي الضعيف.

وقبل احتفال التونسيين بالذكرى السابعة لانتفاضة يناير تحسس التونسيون أنهم يقفون على مشارف أزمة سياسية مشابهة لأزمة الترويكا تتغذى من طبقة سياسية هشة فاقدة للوعي السياسي العميق بأوضاع البلاد الأكثر هشاشة كما تحسسوا أن العملية السياسية الديمقراطية باتت بين فكي أحزاب تخوض الحرب على المواقع بعيدا عن دورها في توفير حزام متين للتشاركية الديمقراطية بناء على مفهم الوحدة الوطنية.

وبدل أن تقود الأحزاب العملية الديمقراطية باعتبارها عملية سياسية من مشمولاتها دون غيرها تحولت الأحزاب والطقة السياسية بصفة عامة إلى معضلة وحجرة عثرة بعد أن غرقت في أزماتها الداخلية وخاصة نداء تونس الذي انشق ليلد من رحمه حزب "مشروع تونس" الذي يقوده اليساري محسن مرزوف فيما عصفت بحركة النهضة حالة من الارتباك والوهن تسللت إلى كيانها التنظيمي على خلفية التحالف ولكن أيضا على خلفية عياب السياسة الديمقراطية وتفرد الغنوشي بصناعة القرار.

ويقول أخصائيون في العلوم السياسية توازن العملية السياسية الديمقراطية التونسية نسبيا لم تؤمنه الأحزاب السياسية إنما تؤمنه الدولة ومؤسساتها وأجهزتها لا فتين إلى أن تلك الأحزاب كثيرا ما استخدمت الدولة القوية كغطاء يخفي تدني أداءها وتدني ثقة التونسيين فيها حتى أنها نخرتها من الداخل وجردتها من هيبتها وأدائها في إدارة الشأن العام وخاصة في توفير التنمية والاستقرار والشغل والسلم الأهلي.

وتظهر عمليات سبر الآراء أجرتها مؤسسات تونسية وأجنبية تدني ثقة التونسيين في الأحزاب إذ هي لا تتجاوز نسبة 26 بالمئة مقابل ارتفاع ثقتهم في مؤسسات الدولة التي تتجاوز نسبة 90 بالمئة لعدة أسباب منها عراقة الدولة ذاتها ومنها اعتبارها من قبل التونسيين الكيان الوحيد الذي يدينون له بالانتماء والولاء ومنها أيضا التقدم في مكافحة الإرهاب من قبل وحدات الجيش والأجهزة الأمنية.

ووفق الأخصائيون يستبطن تدني الثقة في الأحزاب المعنية الأولى بالعملية السياسي تدني الثقة في المسار الديمقراطي وهشاشة الثقافة السياسية التي تتبناها الطبقة السياسية في تونس التي تعودت حكم دولة مدنية مهابة وقاسية أحيانا بشأن خياراتها وتوجهاتها وقراراتها يقودها رئيس قوي سياسيا وإن لم يكن ديمقراطيا.

*اقتصاد على شفا الإفلاس

يجمع الأخصائيون في التنمية على أن الاقتصاد يعد أول المتضرر من انتفاضة يناير حتى أن تونس تكاد تلتحق بالسيناريو اليوناني بعد أن فشل حكام تونس الجدد في رسم خيارات وسياسات اقتصادية وتنموية واضحة على القطاع. 

قبل الإطاحة بنظام بن علي نجحت تونس إلى حد ما في بناء اقتصاد ذي أداء مقبول مقارنة بالإمكانيات المحدودة للبلاد وندرة الثروات الطبيعية إذ تبرز المؤشرات أن نسبة النمو العام 2014 كانت في حدود 5 بالمئة وهي نسبة معقولة نتيجة انتهاج سياسات اقتصادية برامجية كانت كفيلة بالرفع من أداء غالبية القطاعات الحيوية وفي مقدمتها قطاع الصناعات المعملية وغير المعملية وقطاع الطاقة وقطاع السياحة وقطاع الاستثمار الخارجي نتيجة حالة الاستقرار آنذاك.

غير أن الفوضى النسبية الاجتماعية والسياسية التي عصفت بتونس خلال السنوات السبع الماضية وغياب سياسات برامجية وإصلاحات هيكلية قادت بالمكاسب الاقتصادية إلى الوقوف على شف الإفلاس إذ تراجعت نسبة النمو إلى الحضيض ولم تجاوز صفر فاصل 5 بالمئة العام 2015 لترتفع قليلا العام2017 إلى 1 بالمئة ثم إلى 2 بالمئة العام  2018 بعد أن توقفت المئات من المصانع عن النشاط وتراجعت عائدات قطاع الطاقة وخصة قطاع الفوسفاط بنسبة تفوق 40 بالمئة.

وتقول الحكومة إنها تخطط إلى رفع نسبة النمو خلال العام 2018 إلى 3 بالمئة.

كما انخفض عدد السياح العرب والأجانب ليستقر في حدود مليوني سائح بعد أن كانت تونس وجهة لأكثر من 2 مليون سائح نتيجة المخاوف من غياب الاستقرار الاجتماعي والأمني واستشراء العمليات الإرهابية، وأيضا نتيجة مغادرة المستثمرين الأجانب البلاد باتجاه المغرب خاصة وعدد من البلدان الأخرى المستقرة وبعد أن كان عدد المؤسسات الاستثمارية الأجنبية يفوق 2000 مؤسسة خلال فترة حكم نظام بن علي فإن عددها اليوم لا يتجوز العشرات لتنخفض نسبة عائدات الاستثمار الخارجي إلى أقل من 22 بالمئة وفق إحصائيات مؤسسات تونسية متخصصة.

لم تجر الحكومات المتعاقبة في تونس أي إصلاحات هيكلية من شانها لا فقط الرفع من أداء الاقتصاد المنظم بل حتى البقاء عليه كما كان قبل سقوط نظام بن واكتفت بسياسة يصفها الخبراء بـ"سياسة الترقيع" من خلال بعض إجراءات لم تقد سوى إلى إنهاك غالبية المؤسسات الاقتصادية والقطاعات الحيوية الاستراتيجية.

وتظهر القراءة المقارنة بين الأوضاع الاقتصادية قبل الانتفاضة وبعدها أن المؤشرات تراجعت بشكل خطير خلال السنوات السبع الماضية إذ تفاقم عجز موازنة الدولة ليبلغ 6 بمئة العام 2017 بعد أن كان في حدود 1 فاصل 3 بالمئة فقط ما دفع بالحكومة إلى التخطيط إلى خفض عجز الموازنة إلى 4 فاصل 9 بالمئة مع نهاية العام 2018 في مسعى إلى تخفيف الضغط موارد الدولة.

وقاد عجز الموازنة إلى إغراق تونس في التداين التي ارتفت نسبتها إلى نحو 55 بالمية من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن استقرت العام 2010 في حدود 40 بالمئة.

ويحذر خبراء وسياسيون من تداعيات تفاقم التداين الخارجي على المستوى السياسي مشددين على أن "التداين يعد مدخلا للإملاءات الخارجية سواء من قبل شركاء تونس وفي مقدمتها بلدان الاتحاد الأوروبي التي تستأثر بنسبة 80 بالمئة من المبادلات التجارية أو من قبل المؤسسات الإقليمية والدولية المانحة وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي الذي عادة ما يشترط سياسيات معينة مقابل الاقتراض.

وتساور الخبراء السياسيون مخاوف من أن يقود التداين الخارجي إلى ارتهان القرار السيادي بشأن مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخيارات السياسية بما فيها العملية الديمقراطية إلى ضغوط شركاء تونس والمؤسسات المانحة.

وتقر الحكومة بأن تمويلات تونس العام 2018 إلى نحو 5 مليار دولار 65 بالمئة منها متأت من تمويلات الشركاء والمؤسسات الإقليمية والدولية المانحة أي ما يعادل حوالي 2 فاصل 9 مليار دولار ما يعني أن الاد باتت غارقة بشكل قياسي في التداين الخارجي ما يملي عليها إجراء إصلاحات هيكلية كبرة منتجة تنعش الاستثمار.

وتراجح احتياط تونس من العملة الصعبة إلى مستويات قياسية ليستقر في حدود إلى 112 يوما من التوريد فقط العام 2017 مقابل 147 يوما العام 2010 فيما ارتفعت نسبة التضخم من 4 فاصل 4 العام 2010 إلى نحو 5 بالمئة العام 2017 أما العجز التجاري فقد ارتفع العام 2017 إلى نحو 8 بالمئة من الناتج الداخلي الخام بعد أن كان يقدر العام 2010 بـ 4 فاصل 8 بالمئة ويقدر حجمه الخبراء بنحو 3 مليار دولار.

أما نسبة التضخم التي كانت العام 2010 في حدود 4 بالمئة فقد ارتفعت إلى 6 بالمئة العام 2013 خلال فترة حكومة الترويكا بقيادة النهضة لتنخفض قليلا العام 2017 إلى نحو 5 بالمئة غير أنها تواجه صعوبات قاسية في ظل تدهور قيمة الدينار التونسي مقارنة بالدولار الأمريكي والأورو الأوروبي.

ويجمع أخصائيون في التنمية وعلم الاستراتيجيات أن أزمة الاقتصاد التونسي هي أزمة هيكلية لا قطاعية مطالبين الحكومة بالتعجيل بإطلاق إصلاحات كبرى من شأنها أن تنعش قطاع الاستثمار بقسميه المحلي والأجنبي مشددين على أن "إنقاذ الاقتصاد من الإفلاس يستوجب انتهاج سياسات منتجة خاصة وأن حجم التداين الخارجي لا يتم توظيفه في الاستثمار وإنما يوجه إلى تغطية النفقات العمومية نتيجة عجز الموازنة.

* أوضاع اجتماعية محتقنة

ألقت الأزمة السياسية والاقتصادية بتداعياتها السلبية على الأوضاع الاجتماعية وفيما كان التونسيون الذي انتفضوا ضد الفقر والتهميش والحرمان في يناير 2011 يتطلعون إلى أن توفر لهم الدولة مقومات العيش الكريم والتنمية والشغل والبنية الأساسية لم سياسات الحكومات المتعاقبة سوى إلى تعميق التردي الاجتماعي لتستفحل لدى غالبية اتجاه الرأي العام حالة من الإحباط ممزوجا بالسخط الشعبي كثيرا ما أشعلت الاحتقان الاجتماعي والاحتجاجات التي لم تخل أحيانا من العنف.

وخلال السنوات السبع الماضية بدت تونس وكأنها تشق مسلكا وعرا تعصف به احتجاجات عارمة تهدأ أحيانا لتندلع شرارتها أحيانا أخرى وتؤجج احتقانا اشد استعصى على الحكومات المتعاقبة لا فهمه ولا تنفيسه من خلال امتصاص الغضب الشعبي الذي أخذ نسقا تصاعديا مرشحة تداعياته إلى عدة احتمالات.

وتظهر القراءة في الشأن الاجتماعي أن السخط الشعبي مستفحل في الجهات الداخلية المحرومة مثل محافظة سيدي بوزيد مهد انتفاضة يناير والقصرين وقفصة والقيروان الواقعة في الوسط، وسليانة والكاف وجندوبة وباجة الواقعة في شمال غرب البلاد، ومدنين وتطاوين الواقتين في الجنوب ومستفحل أيضا في احياء شعبية بائسة متاخمة للمدن الكبرى وخاصة تونس العاصمة وتوصف بالأحزمة الحمراء.

ويجد السخط الشعبي في غياب المرافق الأساسية للعيش الكريم بما فيها المياه الصالحة للشرب وارتفاع نسبة الفقر والبطالة وقودا لتأجيج التظاهر ضد حكومات متعاقبة بدت ضعيفة ولم تتوصل إلى الإصغاء المدروس لمشاغل المحرومين والاستجابة لمطالبهم وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية إذ يكاد لم يتحقق شيئا يذكر على الرغم من أن كل حكومة تعهدت بتصدير الملف الاجتماعي ضمن أولويات أولوياتها.

والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي انتفض فيه المهمشون والعاطلون عن العمل والمحرمون على نظام بن علي مطالبين بعيش يليق بالبشر لم تقد السياسات التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة سوى إلى تعميق معضلات التونسيين لتزج بالبلاد في أزمة هيكلية عامة لتقف على مشارف انتفاضة ثانية لنفس الأسباب تضاف إليها الأزمة السياسية وظواهر أخرى وفي مقدمتها استشراء الفساد وبروز طبقة مخملية ثرية ثراء فاحشا متأت بطريقة غير مشروعة دون توفر آليات رقابة الدولة.

المؤشرات المتوفرة بعد سبع سنوات من الوعود والتعهدات تؤكد المفارقة في مختلف المجالات الاجتماعية إذ ارتفعت الفقر بنسبة عامة في حدود 32 بالمئة أي أن ثلث التونسيين باتوا يصنفون ضمن فئة الفقراء، وتتعمق المفارقة أكثر في الجهات الداخلية وفي الأحياء الشعبية حيث تتراوح بين 50 و60 بالمئة ما يبدو بالنسبة للأخصائيين في العلوم الاجتماعية التنموية أن السنوات السبع الماضية ركزت مجتمعا آخر بعيدا عن نمط المجتمع التونسي الذي كان ينبني على طبقة وسطى تمثل 70 بالمئة منه وفئة محدودة من الأثرياء وأخرى من الفقراء.

ولا يتردد الأخصائيون في التحذير من أن المجتمع التونسي يسير باتجاه الانشطار إلى مجتمع مخملي ثري ثراء فاحش ومجتمع فقير فقرا مدقعا في ظل حالة التفقير التي تتعرض لها الطبقة الوسطى حتى أن شرائحها السفلى باتت تصنف ضمن خانة الفقراء مثل موظفي القطاع العام والأجراء وصغار الصناعيين والتجار والمزارعين.

أما البطالة فهي تمثل في تونس معضلة المعضلات في ظل تفاقم بطالة حاملي الشهادات الجامعية العليا وتقدر نسبتها العامة بنحو 15 بالمئة وفق الإحصائيات الحكومية غير أن الخبراء يقولون إنها تتجاوز 20 بالمئة وتشكل خطرا اجتماعيا بل إنسانيا حتى أن الآلاف من الشباب بات يراهن على الهجرة السرية وقوارب الموت باتجاه السواحل الجنوبية الإطالية حالما بالرفاه ليكتشف في حال وصوله أنه هرب من جحيم إلى جحيم أشذ لظى تغذيها ثقافة عنصرية كثيرا ما تعمق مأساتهم.

ووفق دراسة أعدتها "جمعية العاطلين عن العمل" في أكتوبر 2017 حول البطالة في الجهات الداخلية وفي الأحياء الشعبية تتراوح نسبة البطالة ما بين 44 بالمئة و63  بالمئة في صفوف الشباب وتسجل أعلى نسبتها في محافظات سليانة وسيدي بوزيد والقصرين ومدنين لتصل إلى نحو 77 بالمئة وهو مؤشر مفزع كثيرا ما التقطه الإرهابيون لتجنيد الآلاف من الشباب بعد عملية غسل الادمغة.

ويبدو أن الاحتجاجات خلال العامين الإثنين الماضيين أخذت منى سياسيا لم يقع التعامل معه بوعي إذ رفع المهمشون من سقف ونوعية مطالبهم، إذ بعد أن كانوا يطالبون بتوفير مستلزمات العيش الكريم باتوا يطالبون بالحق في المواطنة وضمان حقوقهم لا الاقتصادية والاجتماعية فقط وغنما أيضا بحقوقهم السياسية وإشراكهم في العملية السياسية باعتبارهم مواطنين شانهم شأن بقية التونسيين.

ويرى أهالي الجهات الداخلية والاحياء الشعبية أن الحكومات المتعاقبة جردتهم من حق المواطنة وأنهم "مواطنون من درجة ثانية" في دولة ينص دستورها على أن جميع التونسيين متساوين في الحقوق والواجبات ترعاها وتحميها دون إجحاف.

ويؤشر مفهوم "مواطنون من درجة ثانية على أن الاحتقان الاجتماعي يستبطن غبنا سياسي مضافا إلى الغبن الاجتماعي ليضفي على المظاهرات والاحتجاجات أبعاد سياسية ليس أقلها السخط على السلطة المركزية التي تحتكر القرار السياسي والإداري في حين يطالب الأهالي بحقهم المشروع في التشاركية الديمقراطية.

ويشدد مراقبون وسياسيون على أنه من الإجحاف الحديث عن الديمقراطي في ظل غياب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لجميع التونسيين وخاصة المهمشين منهم ملاحظين أن الديمقراطية كل لا يتجزأ مهما كانت الدواعي.

وإذا علمنا أن 77 بالمئة من التونسيين يقولون، وفق عمليات سبر للآراء أجرتها مؤسسة "سيغما كونساي"التونسية أن "البلاد تسير باتجاه الخطأ" نستنتج الاحتجاجات التي ما انفكت تعصف بتونس عي في عمقها احتجاجات تستبطن غضبا شعبيا سياسيا لا اجتماعيا فقط وانها تؤشر على معارضة شعبية لسياسات الحكومات المتعاقبة.

*نجاحات أمنية في مكافحة الإرهاب

من الإجحاف، كما يرى أكثرية التونسيين أن تجب الأزمة الهيكلية التي تشهدها تونس النجاحات الأمنية التي حققتها البلاد في مكافحة الإرهاب إذ قادت وحدات الجيش وقوات الأمن جهود مضنية في التصدي للإرهابيين الذين وجهوا ضربات موجعة لكيان الدولة المدنية في مسعى لبناء إمارة إسلامية وتغيير نمط تدين التونسيين.

وعلى الرغم من أن إرهابيي تونس كانوا يتصدرون قائمة إرهابيي تنظيم الدولة داعش يتبوا العشرات منهم مراكز قيادية متقدمة فقد فشلت الظاهرة الإرهابية إلى حد الآن على الأقل تنفيذ مخططاتها لا فقط نتيجة جهود الدولة وإنما أيضا نتيجة رفض التونسيين الاصطفاف وراء مقاتليها وتمسكهم بالإسلام المعتدل الوسطي والمتسامح وأيضا تمسكهم بهويتهم الوطنية وبكيان الدولة المدنية.

تبدو المعطيات بشأن الإرهابيين شحيحة نظرا لطبيعة الظاهرة الإرهابية نفسها غير أن ذلك لا يمنع من أن تونس تحولت خلال السنوات السبع الماضية إلى خزان للإرهابيين إذ يقدر أخصائيون في الإسلام السياسي أن عدد الإرهابيين التونسيين يفوق 5000 آلاف مقاتل وهو رقم في غاية الخطورة خاصة وأن المجتمع التونسي مجتمع منفتح إلى حد اللبرالية وتغلب عليه ملامح الحداثة وشراهة فرحة الحياة.

ولئن نجح تنظيم الدولة الإرهابي في توجيه ثلاث ضربات موجعة شملت الأولى المتحف الأثري بباردو وسط العاصمة تونس العام في مارس من العام 2015 وشملت الثانية فندقا سياحيا في جوان من نفس العام وشملت الضربة الثانية مدينة بن قردان الجنوبية في مارس 2016 فقد فشل في تركيز تنظيم مهيكل في شكل إمارة تابعة للتنظيم الأم نتيجة تفكيك المئات من الخلايا المتوثبة في الجبال وفي المدن.

غير أن الخبراء الأمنيون يحذرون من أن الإرهابيين مازالوا يشكلون خطرا على تونس ولا يمكن التسليم بفكرة القضاء عليهم مشددين على تضييق الخناق عليهم في ليبا وفي سوريا وفي العراق سيدفع بهم إلى العودة لتونس ليشكلوا قنبل بشرية موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة مستغلين هشاشة الأوضاع والأزمة وتداعياتها.

*سياسة خارجية حذرة

في اعقاب انتفاضة يناير كادت حركة النهضة التي تقود حكومة لترويكا آنذاك جر الدبلوماسية التونسية إلى سياسة المحاور وخاصة المحور التركي القطري لتحيد خلال عامين عن خط السياسة الخارجية التونسية الذي كثيرا ما نأى بنفسه عن الارتهان لسياسة المحاور الإقليمية والدولية متشبثا بمبدأ توازن العلات النسبي.

غير أنه منذ تولي قائد السبسي رئاسة الدولة استعادت تونس شفافية سياساتها الداخلية وقام السبسي المسؤول على رسم سياسة تونس الخارجية بزيارات إلى عدة بلدان عربية وأجنبية لإصلاح ما أفسدته الترويكا ومن تلك البلدان الجارة الجزائر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا ...

غير أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوكان التي قام بها مؤخرا إلى تونس اثارت الكثير من الجدل الممزوج بالتوجس والمخاوف من بشأن التقارب من المحور التركي والقطري ورأت غالبية اتجاهات لرأي العام والطبقة السياسية أن الزيارة سابقة من نوعها وطالبت ريس الدولة بانتهاج سياسات خارجية بعيدا عن أي محور بناء على خدمة المصلحة الوطنية والنأي بتونس عن مستنقعات المحاور.

 *حصيلة الثورة

تظهر القراءة في حصاد السنوات السبع في تونس أن البلاد وعلى الرغم من أنها تعد تجربة متفردة في المنطقة لم تتوصل بعد لا إلى الاستقرار الحكومي والسياسي ولا إلى إنعاش الاقتصاد ولا إلى توفير الاستقرار الاجتماعي نظرا لسقف المطالب المرتفع مقابل الإمكانيات المحدودة وما تشهده البلاد خلال هذه الفترة من أزمة حادة يؤكد ذلك.

غير أن ذلك لا ينفي أن تونس تمكنت خلال السنوات الماضية من تركيز مسار إنتقالي ديمقراطي وهو لئن كان متعثرا وربما هشا فإنه يمثل أبرز المكاسب إلى جانب الحريات الأساسي المدنية منها والسياسية في مجتمع مسيس إلى حد النخاع.