قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، كانت وكالة التعاون والتنسيق "تيكا" تشتغل لحوالي عشر سنوات، في 12 مكتبا موزعة على الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي في جبال "ستان" وغيرها. وعندما تأسست العام 1992 كانت عبارة عن مؤسسة تعنى بمساعدة تلك الجمهوريات على تطوير مؤسساتها وبناها التحتية باعتبارها كانت من الأقاليم المنسيّة في الاتحاد المنهار. والذي جعل تركيا تعتمد على تلك المؤسسة "الخيرية" هي الروابط الاجتماعية والثقافية التي تجمع الجمهوريات "الجديدة" بالدولة التركية المركزية التي نظرت إليها كفروع لها أكثر منها كدول مستقلة بذاتها، مستغلة في ذلك الوضع التي كانت عليه بداية التسعينات من تراجع على كل الأوجه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

بعد وصول الحزب إلى الحكم العام 2002، وفي إطار توسع نشاط المنظمة نحو فضاءات إقليمية أخرى، من بينها المنطقة العربية، حيث تشير آخر الأرقام إلى بلوغها نحو 65 مكتبا حول العالم أغلبها تنشط في دول إسلامية. وارتفع حجم المساعدات التي تقدّمها "تيكا" من 65 مليون مليون دولار في 2002، إلى 3 مليار دولار في العام 2015، مع التغلغل الرسمي لحزب أردوغان في السلطة وتحكمه في كل مفاصل الدولة، الأمر الذي فتح جدلا حول الأهداف التي أصبحت تلعبها المنظمة في بعض الدول العربية التي شهدت تحولات سياسية العام 2011، وعرفت صعودا لتيارات الإسلام السياسي التي تدعمها تركيا بكل قوة، حيث يشير مراقبون إلى المنظمة أصبحت أداة بيد أردوغان عبر خطة لتوسيع نفوذه ضمن ما يعرف بمصطلح "الدبلوماسية العامة" الذي ظهر مع المفكر الأمريكي إدموند غاليون القائمة على التأثير في دولة ما عبر أنشطة ثقافية أو إنسانية أو مدنيّة بهدف نشر مشروع سياسي أو ثقافي معيّن.

بعد إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي في 2011، بتحالف غربي وعربي مكشوف، دخلت ليبيا في حالة من الفوضى والتقاتل ما أثر على كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدولية، التي لم تنته إلى اليوم وإن بأقل حدة من السابق. في تلك الفترة كانت تركيا لاعبا أساسيا في الملف الليبي سواء عبر التحريض الذي قامت به إلى جانب دول أخرى، أو عبر المشاركة العسكرية المباشرة التي أعلنت فيها عن نفسها رسميا كقوة فاعلة ورئيسية لها حسابات ومصالح لا تقل قيمة عن تلك التي سطرتها دول غربية أخرى، خاصة أن الأتراك الرسميين أصبحوا يعتبرون أنفسهم اليوم من القوى النافذة في المنطقة العربية ويجب التنسيق معهم والتشاور في مختلف المواضيع، لأنهم ككل القوى الفاعلة الأخرى أعينهم مفتوحة على بعض المغريات الاقتصادية التي يطمحون أن يكون لهم منها نصيب.

وكالة التعاون والتنسيق "تيكا" كانت أيضا جزءا من التدخل التركي في ليبيا؛ في ظاهر أنشطتها اهتمام بالعمل الإنساني والمدني، لكن الواقع أن المنظمة جزء من المشروع الأوردوغاني الداعم للإسلام السياسي، فهي في ارتباط تام برئاسة الوزراء ووزارة الخارجية التركيتين وهي واجهتهما في الخارج عبر الأنشطة التي تقوم بها ومن خلالها يتم التسويق للسياسة التركية ولحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان الذي أصبح أشبه بالخليفة العثماني الطامح لاستعاد أمجاد امبراطورية أجداده الضائعة. وخير دليل على التفكير "الماضوي" لحكومة أوردوغان ومن خلالها المنظمة المذكورة هو قيام الأخيرة في شهر فبراير الماض، بتجهيز إحدى المدارس العثمانية في طرابلس بعدد من المعدات الحديثة من خلال حضور رسمي للسفير التركي "أحمد دوغان".

وتركّز المنظمة التركية أعمالها على الجوانب التعليمية والثقافية بالإضافة إلى مهامها الإغاثية والصحية من أجل كسب صورة إيجابية لدى المواطن الليبي الذي فقد الثقة في كل جماعات الإسلام السياسي خاصة في المنطقة الشرقية، بعد الخراب الذي تسببت فيها للبلاد على امتداد السنوات الماضية، وما تكثيف نشاطاتها في السنتين الأخيرتين في عدد من المناطق الغربية عبر قوافل صحية ومساعدات غذائية ومشاريع تربوية إلا محاولة للإبقاء على نفوذ القوى الداخلية المرتبطة ارتباط وثيقا على المستوى السياسي بتركيا وبمشروعها الإسلامي في المنطقة، خاصة أنه يعيش فترة غير زاهية من خلال عدم الرضى عليه في الشارع الليبي الذي أصبح لديه نفور كبير بعد سبع سنوات من التقتيل والتناحر اللذين خففت منهما سيطرة الجيش على مجريات الأمور في المنطقة الشرقية للبلاد.

الرهان التركي على المنظمات الإنسانية للتسويق لصورة رجب طيب أوردوغان يبقى مشروعا في بلد يسير بشكل إيجابي على طريق النمو وفق الأرقام الرسمية، وكل بلد في وضع تركيا ربما سيعتمد نفس الاستراتيجيات لنشر صورته في الخارج، لكن الصورة التي ظهرت بها منظمة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في البلاد كانت التسويق لصورة أوردوغان في الخارج وإظهاره في مظهر الزعيم الإسلامي الجديد الذي لا يبخل على أي بلد مسلم وحتى غير مسلم يعيش أزمات داخلية، وما تقوم به المنظمة في ليبيا يتنزّل بشكل طبيعي ضمن ذلك المشروع الذي بدا واضحا أنه لم يعد يلقى القبول لدى المزاج العربي العام بسب انكشاف المخططات التركية في المنطقة، التي تسببت في حالة من الانقسام والفوضى والتحارب الأهلي كما كان عليه الحال في ليبيا.