لم تشهد ليبيا منذ عرفت كدولة حالة من الفوضى والانفلات الأمني واستشراء الفساد كما شهدته خلال السبع سنوات الأخيرة التي أعقبت أحداث فبراير 2011، ولعل ما احتواه تقرير ديوان المحاسبة الذي أعلن عنه قبل أيام خير دليل على ما وصلت إليه الأمور من سوء تصرّف، وما أصاب مؤسسات الدولة من خراب نتيجة الفساد.

فقد أكد التقرير أن ليبيا وفقا لتقديرات منظمة الشفافية الدولية تتذيل قائمة الدول وتتموقع ضمن أكثر الدول فسادا باحتلالها المرتبة السادسة، بـ 14 نقطة من أصل 100 نقطة على سلم الشفافية والنزاهة، وأن مستوى الفساد في المجتمع وصل إلى 86 %، وهو ما يتطلب أولاً الاعتراف بأنه متجذر في العقول والأفكار، وأصبح ثقافة عامة، وعملاً يومياً تمارسه أغلب قطاعات المجتمع بقطاعيه العام والخاص، ويشمل الجميع دون استثناء.

وأشار التقرير إلى مظاهر وأشكال الفساد، بتناول عدة نماذج شكلت حالات فساد شملت إهدار المال والتقصير في حفظه وصيانته واستخدامه في غير الأغراض المخصص لها، إلى جانب إساءة البعض لاستخدام سلطاتهم قصد تحقيق منافع للغير دون وجه حق، بالإضافة إلى الاستحواذ على المناصب، رغم ضعف الكفاءة، فضلاً عن تبديد مخصصات بالعملة الصعبة لشراء السلع التموينية، إلى جانب التلاعب في التعيينات، وعقود العمل التي تبرم للوساطة والمحسوبية بأعداد كبيرة دون حاجة إليها، والتلاعب في العُهد التي تصرف بمبالغ كبيرة دون تسويتها، أو تسويتها بموجب مستندات غير حقيقية.

وتناول التقرير مختلف القطاعات العامة التي اتهمها بإبرام اتفاقيات تعويض للمقاولين لا يستحقونها، وتغريم الدولة مبالغ طائلة، فضلاً عن التنازل عن الإدارة لصالح الشريك الأجنبي، إلى جانب التحايل والتلاعب في عقود التأمين الطبي، والتوسع في إبرام العقود وتكليفات العمل المباشرة، دون دراسة جدوى تلك التعاقدات، ومن بين القطاعات التي فصل التقرير فيها، هي وزارة الخارجية والاتصال الدولي، وتناول بالتفصيل، بعض السفارات والقنصليات في دول شهدت أكثر من غيرها عمليات وصفها التقرير بالتجاوزات والفساد.

وسجل تقرير ديوان المحاسبة عدة ملاحظات على الأداء المالي في قطاع الخارجية، تركزت حول ضعف نظام الرقابة الداخلية المطبق بـالوزارة، وأبرز عدة نقاط جاءت كاتالي:

- التعاقـــد بطريقـــة التكليـــف المباشـــر مـــع بعض الشـــركات، التي نفذت أعمال مقاولات ودون إجــراء مفاضــلة ومناقصة بــين عدد من الشركات.

- القيــام بتســليم بعــض الصــكوك لأشــخاص غــير مســتفيدين، في مخالفــة لنصوص القوانين الحاكمة لمثل هذه الإجراءات.

- تسجيل حالات خلل في المعاملات الخاصة بعلاوات سفر الموظفين وما رافقها، وعدم تحديد الغرض من بعض المهام الموفدين من أجلها.

كما شمل التقرير تجاوزات في الإجراءات وتطبيق النظم واللوائح في السفارات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية، حيث أشار إلى جملة من الملاحظات من بينها:

- عدم إنهاء فترة إيفاد عدد من الموظفين الذين انتهت فترة عملهم بالخارج وفقا للفترات المحددة قانونيا، إضافة إلى عدم قيام الوزارة باتخاذ الإجراءات اللازمة في الموظفين الذين بلغوا سن التقاعد.

- قصــور وزارة الخارجيــة في متابعــة الحســابات المصــرفية التي تــديرها البعثــات الدبلوماســية بالخـارج والأرصدة الدفتريــــة وتقريـر مصـروفاتها.

 كما تناول التقرير تزايد أعداد الموظفين والعاملين بالخارج بشكل مبالغ فيه، وما ترتبت عنه من مصروفات ومخصصات مالية كبيرة، لاسيما في ظل رفع قيمة المرتبات والأجور.

وخصص تقرير ديوان المحاسبة مساحات خاصة بعدد من السفارات والقنصليات التي سجل ملاحظات على أدائها المالي وأثبت عددا من التجاوزات التي تم ارتكابها فيها، وتمثلت معظم المخالفات في عدم التقيد بالنظم واللوائح، إضافة إلى هدر مبالغ مالية كبيرة في غير أبوابها، ولصالح أشخاص بعضهم مسؤولون في تلك السفارات، وآخرون لا يمتون لها بأي صلة، وبلغت تقديرات التقرير تلك المبالغ بمئات ملايين الدولارات، جاءت في رأس قائمة السفارات التي أفسح لها التقرير مجالا تفصيليا سفارات وقنصليات ليبيا في كل من؛ تونس ومصر وعدد من الدول الأخرى.

السفارة الليبية في تونس

تناول التقرير أوضاع السفارة الليبية في تونس وما يتبعها من قنصليات وملحقيات وسجل مواطن الخلل وعمليات الفساد في أدائها الإداري والمالي، وجاءت ملاحظاته على النحو التالي:

- ارتفاع عدد الموظفين والعاملين بشكل كبير حيث بلغوا 111 موظف سنة 2016 بعد أن كان عددهم لا يتجاوز 24 سنة 2011، ولم تُراعَ في التعاقد معهم الأسس المعمول بها في تحديد مهامهم وقسمة مرتباتهم.

- إبـــرام عقـــود عمـــل لعمالـــة غـــير مســـجلة بمســـماة عمالـــة محليـــة ليبيـــة مـــع أشخاص ليسوا من الجالية المقيمة والمقيدة بسجل قيد الوطنيين.

 - استمرار إصدار قرارات إيفاد وإبرام عقـود عمـل بـالرغم مـن عـدم وجـود مـلاك وظيفــي معتمــد.

ومن خلال الفحص المالي المتخصص تم كشف عدد من التجاوزات تمثلت في:

- استمرار الصرف بمبدأ 12/1، المتمثل في إصدار تفويضات مصلحية، ولم يتم خصم الارتباطات المالية من الاعتمادات الخاصة بها.

- الصرف على إقامـة أشـخاص تـابعين لجهـات ذات ذمـة ماليـة مسـتقلة مثل مجلس النواب وبعض الوزارات.

ومن أهم البنود التي رصد التقرير حالات تجاوزات مالية فيها هي الودائع، حيث أظهر التقرير أن قيمتها سنة 2014 فقط بلغت 18,633,484 يورو، في ظل عدم قدرة السفارة على تحليل مفردات الأرصدة وتدقيق السجلات المالية، كما تم توثيق التصرف في الودائع في غير ما خصصت له.

وفيما يخص الحوالات، أكد التقرير أنها بلغت 6,339,911 يورو سنة 2014 تمت إحالتها من المصرف المركزي بالبيضاء، وتم التصرف فيها في أماكن لا علاقة لها بالساحة التونسية، وتم تحويل بعضها إلى سفارات أخرى دون قيدها من قبل المراقب المالي.

كما تم إيراد حوالة لصالح الحكومة المؤقتة في شهر ديسمبر 2015 بقيمة 5 مليون يورو لحساب علاج الجرحى، وتم التصرف في أجزاء كبيرة منها وتم تحويلها إلى عدة جهات بطرق مخالفة للقانون.

السفارة الليبية في القاهرة

لم تكن السفارة الليبية بالقاهرة وملحقاتها أفضل حالا من نظيرتها التونسية، حيث شهدت وضعا استثنائيا لم تعهده أي سفارة في العالم حيث تعددت السفارات والقنصليات والسفراء بالتماهي مع الانقسام السياسي الذي عاشته البلاد فوصل عدد السفارات في القاهرة إلى ثلاث في وقت واحد، وهذا ما فاقم من حالة الفساد وجعلها تتضاعف، ومن بين النقاط التي اعتمد عليها التقرير في إثبات المخالفات الاحتفـــاظ بالمســـتندات الماليـــة والوثـــائق الرسميـــة المتعلقـــة بأرشـــيف الدولـــة الليبيــة ومســـتندات الصــرف في عـــدة أمــاكن دون أن تــتم ارشــفتها بطريقـــة تسهل التعامل بها ومراجعتها والعودة إليها.

ولاحـــظ الـــديوان قيـــام المســـؤولين في الســـفارة بالتصـــرف في الودائع المالية التي تقدر بعشرات الملايين في غيـر الأغــــراض المخصصــــة لهــــا كالتصرف فيها لتسديد مرتبــــات العامليـــــن والمصروفات العمومية، وصــرف عهــد شخصــية خصــمـا مــن بنــد العمــل السياســي دون أن تــتم تســوية العهد المصروفة.

ووثق التقرير التجاوزات والمخالفات المالية في بعض المؤسسات والملحقيات التابعة للدولة الليبية بحمهورية مصر العربية، ومن بينها الشركة العربية للإرسال (قناة الساعة)، التي صرف عليها ما قيمته 865,735 دولار لتغطية مرتبات العاملين بها ومقابل الاشتراكات في الأقمار الصناعية عن سنوات 11، 12، 2013، وتحويل مبلغ 1,190,000 دينار من حساب علاج المواطنين إلى حساب الشركة، دون أن تحــدد الغــرض وأوجه الصــرف الواجــب اســتخدامها فيه.

كما تم إثبات وجود التزام على الشركة يقدر بـ43,506,000 جنيه مصري في شـكل قـرض مــن شــركة الاســتثمار الزراعــي الصــناعي وهــي إحــدى شــركات الاســتثمار المصرية.

وأظهر التقرير أنه تم فـــتح حســـاب مصـــرفي باســـم هيئـــة الإعـــلام الخـــارجي بالمؤسســـة العربيـــة المصرفيــــة وتم عبره ســـــحب 295,000 دولار لأشخاص منهم من لا علاقة له بالشركة وبشكل غير قانوني.

وأظهــرت أعمــال الفحــص قيــام بعــض المســؤولين الســابقين بالســفارة بالتصــرف في عقارات الدولة الليبية بمصر وذلك بنقل ملكيتها بأسمائهم أو أسماء مقربين منهم كزوجاتهم وآخرين.

كما أظهـــرت أعمـــال الفحـــص قيـــام بعـــض المـــوظفين بالحصـــول علـــى قـــروض عقارية من البنك العربـي الـدولي بضـمان أرصـدة حسـابات السـفارة، وتضـمن التعهد أن تلتـزم السـفارة بسـداد بـاقي الرصـيد المـدين المسـتحق علـى المقـترض وكــذلك أيــة التزامــات أخــرى تنشــأ عنــه حــال تقــاعس المقــترض عــن الســداد، وقد بلغت قسمة القروض 4,195,589 دولار موزعة على 31 موظف، من بينهم السفراء والقائمون بالأعمال، والمندوبون، بعــضهم لم يلتزمــوا بســـداد الأقســاط المســـتحقة علــيهم لانقطــــــاع صلتهـــم الوظيفيــة بالســفارة وبالتــالي فــإن الســفارة ســتكون ملزمــة بســـــداد استحقاقاتهم.

الملحقية الصحية

من بين الملحقيات التي سجلت بها مخالفات وشملتها ملاحظات التقرير الملحقية الصحية، وجاءت الملاحظات حول غياب الدفاتر والسجلات والمستندات المؤيدة للصرف، والمبالغـــة في أعـــداد المشـــرفين، حيـــث وصـــل عـــددهم خـــلال عـــام 2012 89 مشرفا يتقاضى كل واحد منهم 1000 دولار شهريا بالإضافة إلى تكاليف إقامتهم في فنادق 5 نجوم، كما تم الكشف عن تعدد الحسـابات المصـرفية التي تحـال إليهـا الأمـوال، وتوثيق قيـــام لجـــان الأشـــراف علـــى الجرحـــى بإصـــدار صـــكوك لـــبعض الأشـــخاص ومستشفيات دون معرفة صفاتهم وعما تمثل هذه المبالغ.

الملحقية الثقافية

بلغت الحــــوالات الــــواردة للملحقيــــة خلال الفترة من 1/1/2017 وحتى 30/9/2017  46,134,183 دينارا، كما أثبت الفحص صرف 104،425 دولار على 17 طالب انتهت فترة الصرف عليهم، وتم الكشف عن تحويلات مالية كبيرة كرسوم دراسية لطلبة غير مدرجين بالمنظومة، وآخرين أقفلت ملفاتهم.

كما أظهر الفحص قيــــام بعــــض وزراء التعلــــيم بمخاطبــــة الملحقيــــة الثقافيــــة بســــداد الرســــوم الدراسية لبعض الطلبة الدارسين علـى حسـابهم الخـاص دون ضـوابط تحكـم ذلك. بالإضافة إلى عقد سنوي لعلاج الطلبة الموفـدين وأسـرهم مع إحدى الشركات بمبلغ 3,308,850 دولارا، بواقع 450 دولارا للمشترك، وقد تم الكشف عن أن الشركة المتعاقد معها لم تكن ضمن الشركات المتقدمة بعروض، وبينت مســــتندات تســــجيل الشــــركة المتعاقــــد معهــــا أن واقــــع بيانــــات الســــجل التجــاري لا يظهــر إن نشــاطها يتعلــق بتقــديم التــأمين الصــحي أو تقــديم الخدمات العلاجية.

وعلى نفس المنوال كشف تقرير ديوان المحاسبة مخالفات وتجاوزات مالية وإدارية في مختلف الملحقيات والقنصليات ليس في تونس ومصر فقط بل في مختلف الدول، وأثبت أن العلاقة طردية بين عدد المواطنين الليبيين في الساحات المختلفة وعدد المخالفات وهو ما يعني تضاعف المبالغ المالية التي صرفت في غير بنودها، والتي اختلست وتحولت من حسابات الدولة الليبية إلى حسابات شخصية لمواطنين ليبيين وأجانب على حد سواء.

 

الفقرات الجانبية:

لم تشهد ليبيا منذ عرفت كدولة حالة من الفوضى والانفلات الأمني واستشراء الفساد كما شهدته خلال السبع سنوات الأخيرة التي أعقبت أحداث فبراير 2011.

من بين القطاعات التي فصّل تقرير ديوان المحاسبة فيها، هي وزارة الخارجية والاتصال الدولي، وتناول بالتفصيل، بعض السفارات والقنصليات في دول شهدت أكثر من غيرها عمليات وصفها التقرير بالتجاوزات والفساد.

خصص التقرير مساحات خاصة بعدد من السفارات والقنصليات التي سجل ملاحظات على أدائها المالي وأثبت عددا من التجاوزات التي تم ارتكابها فيها، وجاءت على رأس القائمة التي أفسح لها التقرير مجالا تفصيليا، سفارات وقنصليات ليبيا في كل من؛ تونس ومصر وعدد من الدول الأخرى.

كشف تقرير ديوان المحاسبة مخالفات وتجاوزات مالية وإدارية في مختلف الملحقيات والقنصليات ليس في تونس ومصر فقط بل في مختلف الدول، وأثبت أن العلاقة طردية بين عدد المواطنين الليبيين في الساحات المختلفة وعدد المخالفات.