في بلد مثل ألمانيا أو سويسرا أو اليابان أو حتى في دول الخليج يعتبر الموظف من الطبقات المحترمة أو ضمن ما يطلق عليه سياسيا البرجوازية الصغيرة، التي تتقاضى رواتب سنوية تفوق بكثير الأجر الأدنى المطلوب، فالأستاذ أو المعلّم أو مظفو الخدمات يتقاضون في بعض الدول الغربية راتبا شهريا يعادل 4 ألاف دولار في الأدنى زيادة على التأمين الصحي العالي وبعض الامتيازات الأخرى. وتنظر هذه الدول لموظفيها على أساس أنهم مسدو خدمات من الصف الأول ويجب إنصافهم بحجم المجهودات التي يقومون بها.

في بلد مثل ليبيا الأمر يختلف تماما، ليس الآن فحسب، بل منذ سنوات. فلم تشفع الميزانية الهامة للدولة ولا امتلاكها لثروة نفطية هائلة، للموظفين الحكوميين بأن ينالوا حقوقا تليق بالمجهودات التي يبذلونها، حيث لم يتجاوز راتب المدرس الليبي بين 1990 و2000، الـ300 دينار ليبي. ورغم تحسنه قليلا مع بعض الإصلاحات الإدارية في البلاد بعد العام 2000 إلا أنها بقيت تحت سقف 500 دينار.

بعد الثورة أعلنت إجراءات بزيادة في الرواتب بحجة أن الموظفين كانوا مهضومي الحقوق ويجب إنصافهم، لكن بالتوازي مع ذلك زادت الأسعار بشكل كبير مما عقّد وضعهم أكثر، حيث يبلغ عدد المشتغلين في القطاع العام حوالي 1.3 مليون موظف يشتكي أغلبهم من تقلص القدرة الشرائية التي تأثرت بشكل كبير من التضخم الذي تسببت فيه الحالة السياسية والأمنية في البلاد.

ويحاجج المسؤولون الليبيون أن الموظف الليبي مثل بقية المواطنين يتمتع بالدعم الحكومي لكل احتياجاته الغذائية والصحية إضافة إلى انخفاض أسعار البنزين في الداخل وبالتالي تكون المبالغ المقدمة من الدولة مقبولة ولا يجب انتقادها، لكن المعنيين يعتبرونها حججا ضعيفة ويؤكدون على الحالة الصعبة التي يعيشونها، فبالمقارنة مع دول نفطية أخرى فإن رواتب القطاع العام تعتبر ضعيفة ولا تلبي حتى احتياجات الموظف البسيطة.

معاناة الموظفين الليبيين تفاقمت بعد "الثورة"، ولم تعد في مستوى الرواتب فحسب بل أصبح الموظف الليبي عاجزا عن تقاضي مرتبه لعدة أسباب منها نقص السيولة ومنها تأخر الصرف لأشهر متتالية وصلت حتى 5 أشهر كاملة في 2015. كما أن الصراع السياسي أثر بشكل كبير على الموظفين: كما كل المواطنين، حيث ذكرت مصادر إعلامية أن بعض المليشيات بعد شعورها بالرفض الشعبي لها حاولت اللعب على وتر الخبز اليومي للناس، تدخلت لدى بعض المؤسسات الرسمية لأجل إيقاف صرف الرواتب وحجتها في ذلك أن الموظفين يتغيبون عن وظائفهم.

وعلى الرغم من ذلك أعلن الموظفون أنهم يواصلون أعمالهم باعتبارهم يقدمون خدمات للناس وليسوا مستعدين لمضاعفة معاناتهم، لكن أغلبهم أكد أن ظروف العمل المادية مازالت ليست في قيمة ما يبذلونه واعترفوا أن صورتهم لدى الناس أصبحت غير جيدة بسبب من يتغيبون عن أعمالهم وبسبب أن القطاع الوظيفي يعتبر من أكثر القطاعات فسادا في البلاد،  وهو اتهام فيه جزء كبير من الحقيقة، حيث أن الميزانية المخصصة للقطاع في حدود 16 مليار دولار وهي تكفي لتلبية كل طلبات موظفي الدولة لكن الفساد ساهم في تفتيت هذه الميزانية إما على وظائف وهمية أو على أشخاص غير مباشرين.

العجز في الموازنة العامة للدولة يعتبر العائق الأساسي في توفير رواتب الموظفين، حيث ساهم الصراع المسلح في البلاد وتقلص الإنتاج النفطي في خفض العائدات المالية للبلاد إلى أقل من النصف حيث لم يتجاوز الإنتاج في بعض السنوات الأخيرة 250 برميلا يوميا وهي كمية ضئيلة على الأقل بما كانت تنتجه ليبيا قبل 2010. وهذه الإشكاليات تؤثر في توفير العملة الصعبة، حيث ذكر المصرف المركزي أكثر من مرة أنه يضطر لتسديد حاجيات الناس من ميزانيات خاصة وخارجة عن المصاريف المضبوطة.

وفي ظل تلك الظروف اضطر الكثير من الموظفين الحكوميين إلى البحث عن مصادر أخرى للدخل لمواجهة الارتفاع الكبير للمواد الأساسية، حيث يستغل المئات منهم الإجازات للعمل في مؤسسات أخرى خاصة أو للتجارة مع الدول المجاورة لتوفير دخل أكثر قادر على تلبية حاجاته وهو ما يراه كثير من الليبيين استنقاصا من قيمة موظفي الدولة الذين يعتبرون القطاع الأكبر من حيث التشغيلية.