في الثالث والعشرين من أكتوبر 2011، تأكد رسميا سقوط نظام العقيد معمّر القذافي بعد أكثر من 40 سنة من حكم بلد جاء إليه عبر ثورة مازالت ذكراها راسخة في أذهان نسبة كبيرة من الليبيين إلى اليوم. ليست المسألة موالاة تامة للعقيد؛ كل الأمور نسبية في تقييم أنظمة الحكم، ولا أحد كان يصنف النظام الليبي في خانة الطهرية أو الأنظمة التي لا تخطئ. لكن المؤكد أنه كان هناك انسجام شعبي على سياسات جعلت الغالبية راضية في وضع اجتماعي مريح بفضل قدرة النظام على مواصلة تجميع الليبيين وتوحيدهم مناطقيا، بالإضافة إلى الرضى عن الدعم الكبير اقتصاديا للمواد الاستهلاكية الذي سهل حياة الناس، وساهمت فيه بالتأكيد العائدات المالية النفطية التي كانت تغطي ما يقارب 90 بالمئة من الاحتياجات العامة للدولة.

في يوم سقوط النظام خرجت أصوات منخرطة في "17 فبراير" معلنة تحول ليبيا إلى جنة ستغيّر حياة الناس إلى ثراء كان يحرمهم منه نظام القذافي، بتهم للنظام وقتها لم يثبت من أغلبها شيء إلى اليوم. تصريحات المجلس الانتقالي في لحظة النشوة "بالنصر" تلك فتحت أفاقا لليبيين أكثر من تصوراتهم، رافعة شعارات النهوض الاقتصادي والحرية والديمقراطية وكأن المشكل فقط في إسقاط نظام من حق الجميع انتقاده، لكن الحقيقة التي صدم بها الليبيون كانت أقسى من تصوراتهم أيضا، وكشف ما كان مخططا له منذ اللحظة الأولى "للثورة"، لتدخل البلاد في أزمات اقتصادية واجتماعية مازال أثرها ظاهرا إلى اليوم.

يعرف الليبيون أن بلادهم قبل 2011 كانت تمتلك احتياطي مالي يقارب 150 مليار دولار، ويعرفون أن محفظة البلاد للاستثمار كانت تستثمر مليارات الدولارات حول العالم، كما يعرفون أن التجانس المجتمعي كان في أفضل حاله. لكن الأمر تغيّر تماما بمجرّد أن أطاح الناتو بالنظام. في تلك اللحظة بدأ الانتهاك الرسمي لسيادة البلاد، كل من شارك في الحرب كان شرطه أخذ نصيب من الغنيمة، كان المشاركون فيها يدركون أنهم أمام فرصة الابتزاز وفرض الشروط أمام أطراف داخلية ضعيفة لا تملك سوى الخروج في وسائل إعلام شريكة في "الجريمة" لتبرر ما يقع في البلاد بحجج تقليدية اكتشفت حقيقتها لاحقا. كانت فرنسا غربيا وقطر إقليميا محركيْ اللعبة في ما حصل؛ الأولى كانت أطماعها سياسية في بلد كان دائما صعبا عليها رغم الإغراءات الاقتصادية التي لم تنل حظها منها لعشرات السنين على الأقل مقارنة بجاراتها إيطاليا التي كانت صاحبة الحظوة الأكبر. أما الثانية فهي صاحبة مشروع سياسي بالأساس يسعى إلى دعم تيارات الإسلام السياسي وخاصة الإخوانية أو المقربة منها، وقد نجح الطرفان في تحقيق جزء هام من أهدافهما مدعومين بضغط دبلوماسي قوي وبدعاية إعلامية سخرت لها إمكانيات مادية ضخمة.

بين 2011 و2016 خسرت ليبيا أكثر من ثلثي احتياطيها المالي، المصرف المركزي الليبي قال إن البلاد قد تعيش حالة إفلاس لم تعرفها في تاريخها بسبب العجز الذي تعرفه الموازنة العامة للدولة حيث أشارت إحصائيات محلية إلى نسبة العجز سنة 2014 بلغت 35 بالمئة مما فرض على الدولة اللجوء إلى صرف أكثر من 56 مليار دولار من العملة الأجنبية. العجز سببه الضغط الكبير في كلفة الدعم وارتفاع مخصصات الرواتب وخاصة إلى ارتفاع مؤشرات الفساد في ظل غياب أي منظومة رقابية تضبط المصاريف، يضاف إلى ذلك غياب السيولة الذي أصبح صداعا يوميا يؤرق الليبيين جميعا دون استثناء.

كما أن التراجع الكبير الذي عرفته السوق النفطية في ليبيا كان مساهما في انخفاض المؤشرات الاقتصادية حيث نزلت قيمة الصادرات من مليون ونصف المليون برميل يوميا في 2010 إلى أقل من 200 ألف برميل يوميا بعد 2011 بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة وسيطرة المسلحين على الحقول الرئيسية المصدّرة في البلاد، الأمر الذي خلق اضطرابا بين قيمة العائدات المالية وبين قيمة المخصصات المحلية.

يضاف إلى ذلك اختفاء نسب هامة من الأموال الليبية في الخارج وعدم اعتراف عدد من الدول الخارجية خاصة الإفريقية منها ببعض الديون المودعة عندها وخاصة توقف عدد من الاستثمارات التي دُفعت فيها أموال كبيرة أيام النظام السابق دون أن تتم مراجعتها بعد "الثورة" في ظل غياب سياسات واضحة وانقسام سياسي داخلي حاد.

الإشكال في "17 فبراير" ليس اقتصاديا فقط. الإشكال هو أن تلك اللحظة فككت البنية الجغرافية والاجتماعية للبلاد أيضا. مأساة تاورغاء اليوم يمكن أن تقدّم لنا صورة عن إنجازات "الثورة الليبية". حوالي 50 ألف مواطن مهجرون من ديارهم وممنوعون من العودة إليها ولاجئون في أراضي البلاد التي لم تتسعهم رغم اتساعها. أقسى لحظة يمكن أن يعيشها الإنسان هو أن يهجّر من أرضه وبيته وهذا ما حصل لسكان تاورغاء. كان قدرهم أن يكونوا ضحية مليشيات كانت سببا في كل الأزمات التي مرت بليبيا بعد 2011، وتهمتهم أنهم لم ينخرطوا في أحداث لم يقتنعوا بمسارها من بدايتها وكانوا هم على صواب وغيرهم مخطئون.

ما وقع في تاورغاء وقع أيضا في الجنوب الذي عرف صراعات تسببت في تشريد سكان تلك المناطق خاصة مع غياب للدولة فيها وانتشار عصابات مختلفة الموالاة والأهداف. الجنوب منطقة استراتيجية في مجال التهريب والإرهاب، لهذا اختارت التشكيلات الاجتماعية فيها تكوين مجموعات مسلحة خاصة بها بهدف أخذ نصيبها من الموارد سواء المحلية أو التي يتم تهريبها. الصراع في الجنوب بين 2011 و2016 عرف تحولات مختلفة. في بدايته كانت مناوشات حول رغبة كل طرف في السيطرة على الحدود، ثم تطور في سنوات لاحقة إلى مواجهات مسلحة خلفت مئات القتلى، أخطرها ما وقع سنة 2015 في أوباري بين قبيلتي الطوارق والتبو مختلفتي "الانضباط السياسي" مخلفا أكثر من 300 قتيل في صراع مازالت تبعاته موجودة إلى اليوم رغم حدتها على ما كانت عليه في السابق.

سرت وبنغازي وطرابلس بدورها لم تكن بعيدة عن التحارب المجتمعي؛ الأولى تسببت سيطرة داعش عليها في هروب سكانها إلى مدن البلاد شرقا وغربا. سرت لها أيضا رمزيتها التاريخية سياسيا، هي المدينة التي ينحدر منها العقيد معمّر القذافي لهذا كانت أعين قوى النفوذ الجديدة عليها وهو ما جعلها من المدن الأكثر تخريبا رغم كونها من المدن التي كانت أثر عمارا وحيوية. أما بنغازي وطرابلس فكانت الحرب فيهما سياسية تبعاتها مسلحة. الأطراف السياسية الجديدة ونظرا لكونها كسبت شرعيتها من البداية من خلال دعم خارجي وجدت نفسها مختلفة في رؤيتها للعملية السياسية (في الواقع لم تكن لها رؤية خارج الأهواء الذاتية)، لهذا احتكمت إلى لغة السلاح التي لم تنته إلى اليوم رغم دعوات التهدئة بدخول العملية السياسية وتجنب العنف.

ما وقع في ليبيا بعد 2011، لا يمكن أن نضعه إلا في خانة النكسة الكبرى التي تحتاج إلى الترميم. ليست المسألة تجنيا على مسار "ثوري" يمكن تفهّم بعض أسبابه، بل القاعدة تقول "الأمور بخواتيمها"، والخاتمة ليست خافية على أحد. تلك القاعدة نستطيع قلبها نحو "الأمور ببداياتها"؛ من لحظة "17 فبراير" كان واضحا مآلها. الثورات يجب أن تتوفر لها شروطها الموضوعية لتنجح، في ليبيا لم تتوفر تلك الظروف مهما قلت على سلبيات داخل النظام. من يسترجع مراحل "الثورة" الليبية ستتضح له النتيجة الحاصلة الآن، لكن عجلة الزمن لا يمكنها العودة عند نقطتها الأولى.

لم يعد المواطن الليبي يقيّم لحظة 17 فبراير سياسيا، ما هو سياسي التاريخ فقط كفيل بتقييمه، رغم يقين الأغلبية أن تلك الفترة هي لحظة سيئة فاصلة في تاريخ الشعب الليبي، ما قبلها ليس هو ما بعدها. لكن تقييم الناس لها أصبح من خلال ما يعيشونه يوميا. منذ 2011، أصبح الجميع يفكّر في ضمان حياته في اليوم الموالي أو في أحسن الحالات في ضمان قوته.