من أيّ نسيج هي , خشنة الملمس حتى أنّها تخزّ  أصابعي , وناعمة بطراوة نسمة صيف , هكذا تجول ذاكرتي في رائحة بعيدة , فأ بحث عن الإسم ودلالته ,عن تلك المودة التي تربطنا معا , هي القفة , أنا حواء , ليست نبتة مخيلة بل واقعا ثريا بتفاصيله العبقة برائحة مكان أثير ,  السانية , والسانية ليست مجرد مكان ,هي وطن مصغر , يعجّ بالناس  , ليسوا طيبين أو أشرارا ,هم بشر ُ , ولكنّ هذا المكان يمنحهم تفاصيل تميّز حياتهم وعيشهم البسيط , هكذا كانت ( القفة ) من تفاصيل هذا العيش , هي الآن تتراءى بخشونة " الحلفا " التي جُدلت منها , أو بنعومة "الديس " و" السعف "  , ليكونا في حضرة الفرح , تحضن (بتات العروس ) , قفتها التي ستنشر على حبل لينظرنها المهنئات ( هكذا حدثتني أمي  عن عروس الأربعينات والخمسينات ) أمّا اليوم فالقفة تتوارى خجلا ,لأن ( النجمة ) صارت هي السيدة بعد اختزال أيام العرس .

ولكن من تنسى تلك الأيام الظليلة بالبهجة , يدها الصغيرة تشارك في التصفيق, وصوتها يصدح مع أصوات البنات , كان عرس في السانية ., الألوان بهيجة ,تتلأ لأ في ضوء الشمس , يعبق الهواء برائحة الأيادي المحناة , والأقدام الرافلة في شبشب فضي أو ذهبي , يزداد إشراق الشمس , ويزداد الجو طراوة تهبّ  من ناحية البير , فهل أنسى , من ينسى .

من ينسى الليلة الاولى من رنضان ,ذاك الترقبّ واللهفة , وعطر يفوح , كأن  النّاس اغتسلوا بالحبّ وفاحوا عبير اً يصعب معرفة أي عطر هو ,الحنة أم النعناع أم البردقوش أم رائحة الريحان , كأن مزيجا قطّرته يد حكيمة وعليمة  , هكذا يفوح كل شيء ,الوجوه مشرقة , والأيادي تتصافح , والقلوب سقينة محبة تعبر باتجاه الله .

لكن كأن هذه الذاكرة تنسى تفاصيلا , لكن ثمة هذي القماشة المطرزة بعبير المطر وصوت أذان العصر ,الركض من المدرسة / مدرسة حليمة السعدية للبنات / ضحك وصراع بهيج : من تسبق صاحبتها ,من تحضن يدها كنزا يفوح بعبيرٍ أخاذ , مزيج أصوات وخطواتنا التى تنهب الطريق الترابي الذي جعلته المطر زلقا , لكننا لانعبأ ,نظل راكضات , يلحق بنّا الأولاد , يسبقوننا ,لكن ّ كل واحدة منّا تعرف أنها ستحوز بين يديها كنزا يفوح , قبب الجامع ,

المئذنة التي تشرئب باتجاه السماء , المطر وخطواتنا , يسبقنا الأولاد مرددين ( لا اله الا الله ,توليف بلاخبزة لواه ) ,لكنّ الخبزة تفوح ونحن ندخل باحة الجامع ,القفة هنا , وقفة هناك ,متخمات بخبز مدور خده مسفوع بنّار تعشقه  , يلتمع والأيادي الصغيرة تتلقفه , أقف مترقبة  فيعلو صوت / تعالى ياحويوة / أركض باتجاه يد رحبَة ووجه يضيء , ذاك أبي ( القمودي ) قربه قفة كبيرة مليئة بخبز يفوح , الحقيبة التي كان ظهري ينوء بثقلها , تغدو أثيرة وهي تحضن / فردة الخبزة / واحدة اثنان , يضحك أبي ويدي الصغيرة تسارع بتلقف هذا الفيض , عمي الصغير , وعمي الصيد ,عمي بوسنينة ,

والبنات يتحلقن حولي / عيادة وفاطمة وسعاد وو... يبدأ مشوار البهجة ,لاركض الآن ,خطوات وئيدة ,مذاق الخبز يسيل في الأفواه ,الضحكات والصراخ حين نكتشف يد أحد الأولاد تحاول نهب بعضا من كنزنا  , ..

والمطر مازال يتهاطل ,مازال هذا المطر يعبر الأعوام ويجيئني برائحة تلك العشية من رمضان , الخبز وأبي والأصوات التي تملأ  الأفق الغائم بكلمات الله , وأصواتنا الرائقة تحاول استذكار ما نحفظ , ..السانية والزيتونة الكبيرة اقترابنا من بيوتنا ,( قل هو الله أحد ,الله الصمد ,لم يلد ولم يولد , ولم يكن له كفؤا أحد ) .

 

*الشاعرة و الأدبية الليبية حواء القمودي