لم تشهد العلاقات الليبية التركية في أي من فتراتها الطويلة حالة استقرار، أو طبيعة معينة يمكن أن توصف بها، فقد عرفت على مر العقود حالات أشبه ما تكون بالمد والجزر، كونها تصل في بعض الأحيان إلى أرقى درجات الصداقة والأخوة، ولكنها سرعان ما تأخذ في التراجع حتى تقترب من القطيعة، إلا أنها لم تصل إلى درجة العداء في أي وقت من الأوقات، ولعل أهم الحقب التي شهدت حراكا حقيقيا في العلاقات الثنائية بين البلدين بخلاف العلاقة التاريخية المرتبطة بالدولة العثمانية التي كانت تفرض سيطرتها على بلدان المنطقة كافة، تبقى حقبة الستينات لا سيما النصف الثاني منها وهي بمثابة البداية الفعلية للعلاقة بين البلدين حيث ارتبطت المملكة الليبية حينها بعلاقات وثيقة مع تركيا، وهو ما أثر لاحقا على علاقات البلدين عقب قيام ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 بقيادة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.

عند قيام ثورة الفاتح سنة 1969 التي تحولت فيها ليبيا من مملكة إلى جمهورية كان الملك ادريس السنوسي، في تركيا التي انتقل إليها من اليونان، الأمر الذي جعل السلطات التركية في حرج خاص للتعاطي مع المستجدات الطارئة في ليبيا، فسادت فترة من الفتور في العلاقة بين البلدين، وكان من بين الأسباب التي فاقمت الفجوة خطابات "القذافي" التي اعتبرت مرحلة العصر العثماني بمثابة احتلال طالما وصفه بالاستعمار البغيض شأنه شأن الغزو الإيطالي من بعده، والغزو الأسباني وغيره من قبل.

وفي منتصف السبعينات أخذت العلاقة بين طرابلس وأنقرة في العودة من جديد بتبادل بعض الزيارات الوزارية بين البلدين، إلا أن الزعيم الليبي الذي بدأ نجمه يبرز في تلك الحقبة، كان يصر في كل مرة يفتح فيها الحوار مع المسؤولين الأتراك، أن يطالبهم بضرورة الخروج من حلف الناتو، وإغلاق القواعد الأمريكية في تركيا، وهو ما بقي بمثابة حجر عثرة في تطور العلاقة بين البلدين، وكانت الغارة الأمريكية على ليبيا في 14 أبريل 1986 نقطة فارقة أثرت على العلاقة بين البلدين، علاوة على الموقف الليبي من القضية الكردية، حيث بعث القذافي في أغسطس 1986 برسالة وصفت بشديدة اللهجة إلى الرئيس التركي كنعان ايفرن، ورئيس وزرائه تورغت أوزال، اتهم فيها السلطات التركية بممارسة الإبادة الجماعية في حق الأكراد، وبقيت العلاقة بين البلدين متوترة على الرغم من المحاولات التركية لحلحلتها، حتى سنة 1987 عندما قام الرئيس التركي بزيارة إلى طرابلس وتمكن من كسر الجمود، وإعادة العلاقة بين البلدين إلى وضع أفضل لا سيما في المجال الاقتصادي.

واتسمت العلاقة بين البلدين طيلة فترة التسعينات بالتطور والتقارب وهو ما استمرت عليه حتى سنة 2011، وكان للعامل الاقتصادي دوره البارز، حيث حصلت الشركات التركية على نصيب هام في مشروعات البنية التحتية في ليبيا، إذ تؤكد التقارير الاقتصادية أن مستوى التّبادل التجاري بين البلدين وصل عام 2010 إلى قرابة 10 مليار دولار، وكانت لتركيا قبل 2011 مشاريع واستثمارات تصل قيمتها 100 مليار دولار حتى عام 2013. وبلغت مشروعات واستثمارات قطاع البناء نحو 15 مليار دولار، دخل منها حيز التنفيذ ما يزيد عن 160 مشروعاً استثماريّاً تنفذها نحو 120 شركة، وكانت ليبيا تستوعب أكثر من 25 ألف عامل، بحسب أرقام رسمية تركية، كما تمثل سوقاً مهماً لترويج المنتجات السياحية التركية ومن ثم مصدرا للدخل السياحي حيث يزورها سنوياً أكثر من 50 ألف ليبي.

وبعد اندلاع أحداث فبراير سنة 2011 كان الموقف التركي في البداية متحفظا، بل أظهر ميولا للوقوف في صف النظام الليبي، الأمر الذي أثار مواقف عدد من الدول التي قادت  الحملة ضد ليبيا، إلا أنه سرعان ما برز على حقيقته، حيث كانت تركيا من الدول العشر الأوائل التي اعترفت بالمجلس الانتقالي، وقدمت له الدعم السياسي والمادي، واستضافت عددا من المؤتمرات والاجتماعات التي جاءت في إطار ما عرف بأصدقاء ليبيا، هذا علاوة على المساهمة التركية المعروفة في حلف الناتو لاسيما وهي البلد الذي يحتضن قواعد أمريكية في حوض البحر المتوسط، وبهذا انقلبت الإدارة التركية على حليفها الاستراتيجي بعد تأكدها بأن مصالحها أصبحت مرتبطة بالمنظومة الدولية التي اتفقت على إنهاء "القذافي" بعد التدخل المباشر اعتمادا على قراري مجلس الأمن 1970، 1973.

بعد نهاية الأحداث المباشرة في أكتوبر 2011 اقتربت السلطات التركية من مختلف الحكومات الليبية التي تعاقبت على إدارة البلاد لاسيما ذات الطابع الديني التي ترتبط بأنقرة ارتباطا عضويا حيث مركز التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وباعتبار إن العامل الاقتصادي بقي حاضرا في كل مراحل العلاقة الثنائية بين البلدين فقد حاولت الشركات التركية العودة من جديد إلى ليبيا لاستكمال عدد من المشروعات التي توقفت بفعل الحرب والأحداث الدامية التي عاشتها.

وأكد رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية الليبية التركية مظفر اكسواي، في تصريح له بالمؤتمر الاقتصادي الليبي التركي، أن عودة الشركات التركية إلى ليبيا، يحتاج وجود جهة قادرة على إصدار القرار في ليبيا؛ لحل المشاكل العالقة، مضيفا أن حجم الاستثمارات التركية الليبية هبط إلى ما دون مليار دولار.

وأشار رئيس مجلس الأعمال الليبي التركي إلى أن بلاده تنفذ 4 مشاريع كبرى متوقفة داخل ليبيا، منها مشروعان للكهرباء تعذر إكمالهما بسبب الأوضاع الأمنية، لافتا إلى أن الوضع الأمني غير المناسب، و"غياب الدولة، وعدم الحصول على المستحقات" أسباب تعرقل عودة الشركات التركية.

إلى جانب حضور تركيا الاقتصادي في ليبيا، يأتي دورها غير المعلن في دعم ورعاية وإيواء الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسؤولة عن تأجيج وتقويض الوضع الأمني، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة وفقا لاتهامات رسمية من قبل عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين الليبيين، ولعل ضبط السلطات اليونانية لسفينة تركية محملة بالمتفجرات كانت في طريقها نحو ميناء مصراتة بليبيا، خلال شهر يناير من العام الجاري خير دليل على ذلك، كما تعد تركيا حاضنة حقيقية لقادة الجماعات الإرهابية الذين طالما لجأوا إليها كل ما ضاقت عليهم الملاحقات، وكل ما خسروا معركة من معاركهم المتتالية في عدة مناطق، ابتداء من عملية فجر ليبيا سنة 2014 وما تبعها من عمليات مشابهة في مناطق الهلال النفطي، وبنغازي، وغيرها، ومن أبرز المتواجدين في تركيا القياديين في الجماعة الليبية المقاتلة، عبدالحكيم بلحاج، وخالد الشريف، وعضو تنظيم القاعدة السابق عبدالوهاب قايد، والقيادي في سرايا بنغازي زياد بلعم، وغيرهم من العناصر التي تتردد على العاصمة التركية والتي تعطي تعليماتها للعناصر المتواجدة في عدد من المدن الليبية لتنفيذ العمليات الإرهابية المستهدفة لمواقع الجيش الليبي، أو غيرها من مؤسسات الدولة، والتي كان من بينها استهداف المفوضية العليا للانتخابات بعد أن فشلت مساعي تنفيذ حراك 30 مارس الذي نودي إليه لعرقلة العملية الانتخابية بدعوى ضرورة إجراء استفتاء على الدستور قبل الدخول في الانتخابات.

ومهما تكن النوايا والدوافع التي جعلت من تركيا لاعبا أساسيا حاضرا في كل المنافسات على اقتسام "الكعكة" الليبية، يبقى دورها مثيرا للريبة، ومصدرا للقلق، وموجبا للتحفظ، ومفسرا لحالات المد والجزر التي شابت العلاقة تاريخيا بين طرابلس وانقرة قبل أن تتعرض لـ"تسونامي" 2011.