تعاني ليبيا من تعثرات متتالية عجزت فيها منذ العام 2011، عن الخروج من أزمات إنسانية خانقة تعصف بها في ظل حالة الانقسام السياسي والصراع العسكري واستمرار غياب دولة المؤسسات وجيش موحد.وفشلت أطراف الصراع الليبي،على مدى السنوات الماضية في الوصول الى اتفاق موحد ينهي استمرار الاقتتال السياسي والعسكري على جميع الجبهات.

وتعتبر جبهة الجنوب الليبي،من أكثر الجبهات تأثرا بحالة الفوضى السياسية والأمنية التي تعصف بالبلاد.حيث تعاني هذه المنطقة من التهميش وأدّى فراغ الحكم فيها، بصورة مطردة، إلى استقطاب المتطرفين الذين يبحثون عن ملاذ في الجنوب من جهة والمهاجرون الذين يتمّ تهريبهم عبر المنطقة من جهة أخرى،وهو ما يؤثر على الأمن في ليبيا، وفي الدول المجاورة وأوروبا.

**تهميش وأزمة:

يغرق جنوب ليبيا المنسي تماما، وفق منتقدين،في أوضاع معيشية صعبة زادها التهميش وطأة بسبب ما تعيشه البلاد من حالة انقسام، رغم ما يزخر به من موارد طبيعية كالنفط والمعادن.حيث أدى تجاهل الحكومات المتعاقبة على البلاد، منذ عام 2011 ، إلى رفع وتيرة الغضب والسخط في منطقة تعيش  حالة من البؤس بسبب عدم توفر الخدمات الأساسية، واستمرار تهميش مطالب السكان وتواصل غياب السلطة المركزية.

ويشكو سكان جنوب ليبيا من تردي الخدمات خاصة في مجال الاتصالات والصحة، إذ أن أغلب المستشفيات لا تعمل أو بصدد الصيانة، باستثناء البعض على غرار مركز سبها الطبي الذي يقدم خدمات سيئة جدا.وتراجع تدخل السلطات الليبية لمساعدة السكان في مواجهة صعوبة الحياة ودعم المستشفيات بالأدوية التي تلزمها نتيجة لحالة الانقسام السياسي.
كما أن انعدام الوقود والغاز ونقص السيولة النقدية والشح في المياه والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي إضافة إلى تردي البنية التحتية وغياب الخدمات الصحية الجيدة، فضلا عن المخاطر الأمنية المحيطة بالمنطقة، جعلت أهالي الجنوب يكافحون تحت ضغط الأوضاع المعيشية الصعبة ويعيشون في صراع يومي لتأمين حاجياتهم اليومية.

هذه الأوضاع دفعت إلى تصاعد وتيرة الإحتجاجات طيلة الأشهر الماضية،وفى أغسطس الماضي،دعت مجموعة الأزمات الدولية،في تقرير أصدرته للسلطات الليبية والحكومات الأوروبية إلى اتخاذ خطوات فورية لتيسير العلاقات بين القبائل في منطقة الجنوب وتحسين ظروف المعيشة.مشيرة إلى  إن تحقيق الاستقرار في إقليم فزان جنوب ليبيا بات أمرا ملحا ويتطلب استثمارات على المدى البعيد.

وفي أكتوبر الماضي،وعد رئيس بعثة المم المتحدة للدعم في ليبيا غسان سلامة، بتجييش كل القدرات المتاحة داخل البعثة الأممية لخدمة أهالي الجنوب، على حد تعبيره.وقال سلامة في كلمته الختامية خلال اجتماعه مع ممثلين عن الجنوب الليبي في طرابلس:"لا أعدكم بما لا أقدر على تنفيذه، ولكن أعدكم بأن أنفذ كل ما أنا قادر على تنفيذه"، بحسب ما نشرت البعثة على صفحتها في فيسبوك.

ويرى مراقبون،أن بقاء مناطق الجنوب الليبي على هامش الحياة السياسية في ليبيا،وعدم قيام الجهات التنفيذية بدورها وإيجاد حلول للوضع المعيشي المتردي والمشاكل التي يعانيها سكان المنطقة،من شأنه أن يزيد من تعميق الأزمة هناك خاصة في ظل المخاطر الأمنية التي تحيط بالمنطقة.

** إرهاب يتربص:

يعتبرالجنوب وفق العديد من المراقبين، الحلقة الأضعف أمنيا،حيث يمثل بيئة جاذبة لعمل الجماعات المتطرفة والأنشطة غير القانونية.وعقب هزيمة تنظيم "داعش" في مدينة سرت،أشارت أغلب التوقعات الى إمكانية فرار العناصر الارهابية الى مناطق أخرى أبرزها الجنوب،وهو ما دعمته تأكيدات قوات حكومة الوفاق في مناسبات عدة،عن وجود عناصر لتنظيم الدولة في الجنوب الليبي.

فبعد خروج مقاتلى "داعش" من سرت مطلع ديسمبر 2016، اضطروا إلى اللجوء  للوديان الصحراوية والمناطق النائية في جنوب سرت. ومع مرور الوقت، تمكنوا من إعادة تنظيم صفوفهم،ولم يتوانى التنظيم عن التبجح بوجوده بشكل علني من  خلال إصدارات مرئية لعناصره،كان أبرزها إصدار مرئي نشرته وكالة أعماق الإخبارية الذراع الإعلامي للتنظيم الارهابي في سبتمبر الماضي،والذى يكشف عن بعض المعسكرات التدريب الخاصة بالتنظيم في الجنوب الليبي.

وقد تمكن التنظيم بعد توجهه إلى الجنوب من شن عدد من الهجمات الإرهابية، مثل الهجوم الذي استهدف بوابة للجيش الوطني تقع على مسافة 100 كيلو متر جنوب الجفرة، مما أسفر عن مقتل 12 جنديا، في أغسطس الماضي، ثم أتبعه بهجوم آخر في الشهر نفسه، فجر فيه سيارة مفخخة عند بوابة تفتيش بالنوفلية، جنوب شرق مدينة سرت.

وبعد الإعلان عن هزيمة تنظيم "داعش" في العراق وسوريا،تصاعدت التحذيرات من إنتقال عناصره إلى مناطق صحراوية شاسعة في دول تشهد نزاعات داخلية واضطرابات أمنية أبرزها ليبيا.وفي نوفمبر الماضي،قالت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ان زعيم تنظيم داعش الإرهابى أبو بكر البغدادى بعث برسائل إلى قادة أتباعه فى ليبيا، مؤكدة أنه سعى إلى تعويض خسائره فى العراق وسوريا، بإصدار تعليمات باستخدام جنوب ليبيا ذى التضاريس الوعرة ساحة لتجميع الفارين من المشرق، لاستهداف مصر وتونس والجزائر.

ويهدف تنظيم "داعش" من وراء إعادة الانتشار في الجنوب الليبي إلى الاستفادة من المناطق الصحراوية،ذات التضاريس الصعبة،من أجل بناء قواعد له،و استغلال الهشاشة الحدودية،للتمدد نحو دول الجوار في محاولة لتجنيد عناصر جديدة من تلك الدول التي يمكن أن تمثل موردا بشريا بالنسبة له،علاوة على إستغلال المنطقة في تجارة التهريب التي تمثل مصدر تمويل لعناصره.

بالرغم من حالة التفاؤل الذى أعقب هزيمة تنظيم "داعش" في سرت، فإن خطر التنظيم لا يزال قائما، في ظل التحركات المستمرة لعناصره في الجنوب، مستغلًا استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي، وغياب سلطة مركزية قوية قادرة على بسط نفوذها على كامل البلاد.وتزداد المخاوف من احتمال أن تستغل الجماعات المتطرفة الأوضاع المتردية في المنطقة، للتموقع من جديد في ليبيا.

 ** الهجرة غير الشرعية:

تفاقمت ظاهرة الهجرة غير الشرعية، خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير، وأصبحت تشكل خطرًا على الوضع الاقتصادي والأمني للبلاد، وتمثل ليبيا منطقة جذب للهجرة غير الشرعية بما أنها المعبر الأمثل في نظر المهاجرين للوصول إلي أوربا من شمال أفريقيا.وتعاني كثير من مدن جنوب ليبيا من تدفق هائل للمهاجريين غير الشرعيين.
ويرى مراقبون أن غياب الدولة وتراجع مستوى الخدمات أضرّ بالجنوب مثل باقي المدن، وجعله معبراً ومنصة للهجرة غير الشرعية منذ العام 2011،وفي هذا السياق،يقول مصباح أوحيدة، عضو مجلس النواب الليبي عن مدينة سبها (جنوب ليبيا)،لـ"الشرق الأوسط"،إن عددا كبيرا من الشبان إندفعوا "للعمل في الهجرة غير الشرعية، والالتحاق بالمجموعات المسلحة لتوفير سبل العيش".

وأكد أوحيدة، إن الجنوب "ظل يعاني التهميش من الحكومات المتعاقبة، والغياب التام للدولة، والخلافات القبلية الاجتماعية أو السياسية، وعدم وجود سيطرة تامة من قوة واحدة على الجنوب"، ولفت إلى أنه يحاذي أربع دول كمنافذ حدودية، ما يعتبر مصدرا رئيسيا لتوافد الجماعات الإرهابية والهجرة غير القانونية. 

ودفع غياب الدولة وتردي الوضع المعيشي عددا من الليبيين إلى الانخراط في شبكات تهريب المهاجرين غير الشرعيين.فمدينة سبها الليبية تحولت بموقعها الجغرافي في قلب صحراء ليبيا إلى مركز للتهريب،لكن تكدّس الأفارقة في المدينة بات يثير مخاوف وهواجس المواطنين، مما قد يترتب على هذا التواجد الأجنبي على أراضيهم والغزو الإفريقي لمدينتهم من انعكاسات سلبية.

ففي دراسة له،اعتبر الكاتب والباحث في المركز الليبي لدعم القرار، أسامة التواتي، أن "تواصل نزوح الليبين من الجنوب إلى مدن الساحل الأخرى بسبب عدم توفر الاحتياجات الأساسية، والذي يقابله في نفس الوقت هجرة إفريقية إلى الجنوب الليبي ينذر بتغيير ديمغرافي في المنطقة خلال السنوات القادمة".وقال التواتي إن هذا الوضع "يمكن أن يمّهد لتوطين المهاجرين الأفارقة في الجنوب الليبي، بعد أن كان نقطة عبور إلى أوروبا"، مضيفا أن "العلاقات التاريخية بين القبائل الليبية بالمنطقة، والعمق الذي تملكه بعضها داخل دول الجوار خاصة تشاد، عـززا نفوذ الوجود الأجنبي في ليبيا".

وفي مطلع الشهر الجاري، توعدت إيطاليا بضبط حدود ليبيا الجنوبية،حيث قال وزير الداخلية الإيطالي ماركو مينيتي، إن "السيطرة على الحدود الجنوبية لليبيا، وعلى طرق عبور المهاجرين وسط البحر المتوسط، أمر حاسم، ليس لمواجهة الهجرة غير النظامية فحسب، بل لمكافحة الإرهاب". وأضاف المسؤول الأمني الإيطالي في تصريحات إلى وكالة "آكي" الإيطالية أنه لا يمكن "استبعاد فرضية أن يحاول المقاتلون الأجانب، الذين تدفقوا من نحو 100 دولة للقتال مع تنظيم داعش في سورية والعراق، بعد هزيمتهم هناك، العودة إلى بلادانهم، حتى في أوروبا، والعبور مع تدفقات الهجرة".

وتسعى إيطاليا من خلال قبائل جنوب ليبيا إلى وضع حد لأزمة الهجرة غير الشرعية،حيث سبق أن أبرمت إتفاق بين قبيلتي أولاد سليمان، والتبو في روما، في الثالث من أبريل (نيسان) الماضي، ينص على ضبط الحدود الجنوبية الليبية، التي تشهد نشاطاً واسعاً لمهربي المهاجرين غير الشرعيين. وقد جمع اللقاء في روما 60 من شيوخ القبائل، بحضور ممثلين عن قبيلة الطوارق وحكومة الوفاق الوطني، التي تتخذ من طرابلس مقراً لها.