يتميّز الجنوب الليبي بتنوّعه الإثني والعرقي والقبلي الكبير، حيث تنتشر وعلى مساحة صحراوية شاسعة العديد من التجمعات القبلية والعرقية المختلفة، والممتدة على فضاء جغرافي مفتوحٍ ومتداخل مع خمس دولٍ كاملة هي النيجر والتشاد والسودان ومصر والجزائر من الأطراف.

هذه التركيبة الجغرافيّة والاجتماعية المميزة، يضاف إليها العامل الأهم على الإطلاق وهو الثراء الكبير للجنوب الليبي بالموارد الطبيعية من معادن ونفط وغاز، ومائدة مائية كبيرة ومهمة، في مقابل ضعف كبير للانتشار السكّاني، حيث تعتبر المنطقة من ناحية الكثافة السكانية هي الأضعف في ليبيا حيث لا تشكّل أكثر من عشر سكّان البلاد.

الشريط الحدودي الطويل للجنوب الليبي العابر عرضيًا لمنطقة الصحراء الإفريقية الكبرى، بما هي إحدى أهم المناطق في العالم لنشاطات التهريب والجماعات الإرهابية، وخاصة ملاصقته لبلدان تعيش هي بدورها في حلقات مترابطة ومتداخلة من الحروب والمواجهات وفي سلسلة متواصلة من الاضطراب عدم الاستقرار، حيث تنتشر بشكل كبير الجماعات المسلّحة والعصابات والميليشيات وتجار البشر والسلاح والمخدرات، تجعل منه منطقة رخوة ومولدا دائما للأزمات في ظل تفككّ الدّولة الليبية وضعف مؤسساتها خاصة العسكريّة والأمنية، وغياب تام لسلطة مركزيّة موحّدة وقويّة.

"قدر الجغرافيا" بالنسبة إلى الجنوب الليبي، و"لعنة الثروات" و"محنة التنوّع" حوّلته إلى منطقة ملتهبة بالمعارك وورقة رهان كبيرة على طاولة أطماع الدّول الكبرى، خاصة بعد العام 2011 وانهيار الدّولة الليبيّة وتحوّل البلاد إلى مرتع للميليشيات والجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابيّة.

"الثّورة" و"الثّروة".. محنة الجنوب بساقين

يعتبر الجنوب الليبي من آخر المناطق في ليبيا التي بقيت تحت سيطرة قوات الجيش الليبي إبان الحرب في العام 2011، فلم يدخل مقاتلو "17 فبراير" إلى تلك المناطق إلا بداية من شهر جويلية/يوليو وبقيت بعض المناطق حتى آخر أيّام الحرب، ويرجع هذا لاعتبارات عديدة، أهمها ولاء تلك المنطقة ومعظم قبائلها للنظام السابق والعقيد الراحل العقيد معمّر القذّافي، وانتشار الكثير من القبائل الموالية كالقذاذفة والمقارحة وحتى من قبائل واثنيات أخرى في الجنوب. ولازال أنصار النظام السابق يعتبرون الجنوب الليبي منطقة "موالية" إلى اليوم كما أنّ لهذه المنطقة وخاصة مدينة سبها رمزيتها الكبيرة في أدبيات "ثورة الفاتح من سبتمبر" والتي تعتبر "أرض الشرارة الأولى"، كما أنّ مناطق واسعة جدا من الغرب الليبي لازالت إلى اليوم تحت نفوذ عسكريين موالين للعقيد الراحل معمّر القذّافي وعلى رأسهم اللواء علي كنة.

وبعد سقوط نظام العقيد الليبي معمّر القذّافي أواخر العام 2011، وانهيار الدّولة في ليبيا ومؤسساتها العسكرية والرّسمية وانتشار الفوضى في البلاد، سيطرت قوات تابعة لمدينة مصراتة أساسا على معظم المواقع العسكريّة والمنشآت النفطية جنوب البلاد، وهو ما فجّر في الأشهر الأخيرة معارك متواصلة مع قوّات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، انتهت بسيطرة قوات الجيش بشكل كامل على منطقة الجنوب (الشرقي خاصة)، في ما جهة الجنوب الغربي تحت سيطرة قوات اللواء علي كنّة، وانسحاب القوّات التابعة لمصراتة والتي أعلنت ولاءها لحكومة الوفاق الوطني إلى الشمال.

هذه المعارك التي دامت لشهور طويلة ليست سوى حلقة من حلقات الصراع والمعارك والمواجهات التي يعيشها الجنوب منذ سبع سنوات، والتي تنضاف إلى ما يعانيه من مشاكل على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصاديّة، وتناسل الحروب والمعارك يعيش المواطن الليبي في الجنوب ظروفا معيشية صعبة حيث الانقطاع الدائم للكهرباء والبنزين والمرافق الأساسية وغياب الأمن وانتشار الجريمة والخطف والاغتيالات والمواجهات القبلية.

كما ظل الجنوب الليبي (ومازال) ساحة نشاط كبير للجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، وملجأ آمنا لها في فترات الانحسار ومجالا للهروب وإعادة التمركز وتنظيم الصفوف، وأيضًا مجالا اقتصاديا مهما من خلال التهريب والخطف ومهاجمة المنشآت النفطية، مستغلة انفلات الأمن وشساعة المساحة وطبيعة الجغرافيا الصحراوية وتناقضات المنطقة القبلية وبعدها عن المركز والمدن الكبرى.

كلّ هذا حوّل الجنوب الليبي، الغني بالثروات الطبيعية، وبموقعه الذي يعتبر بوابة هامة نحو إفريقيا، ومحطة رئيسية في شبكات التهريب والاتجار في البشر، حوّله إلى رقعة صراع كبير ومتواصل بين مختلف القوى الدّولية والإقليمية. فبين المطامع حول "الثّروة" وصراع المصالح والنفوذ والتأثير، وبعد سبع سنوات من "الثّورة" بكل مخلفات التفكّك وانهيار الدّولة واستشراء الفوضى والسلاح، يبدو الجنوب الليبي كالسّائر متعبًا بعكازين وسط صحراء قاحلة.

أطماع متصارعة وحسابات متداخلة

تتداخل الحسابات في الجنوب الليبي بين مختلف الأطراف المحلية والدّوليّة، وتتصارع الأطماع والمصالح، فبين فرانسا بنفوذها التاريخي القديم في المنطقة والباحثة عن موطئ قدم في موقع مهم عسكريا في بوابة إفريقية استراتيجية وموقع مهم اقتصاديًا لشركاتها النفطية، وإيطاليا المستعمر السابق لليبيا والتي تريد وقف نزيف الهجرة غير الشرعيّة نحو سواحلها وأخذ حصة من كعكة النفط الليبي، وبين أمريكا القابعة فوق المشهد بطائراتها العسكرية وطائرات الرصد والرقابة، وبين روسيا اللاعب الداخل بقوة إلى الساحة الليبية، تبقى إيطاليا وفرنسا أهم لاعبين في هذا المضمار.

هذه المطامع توظّف كل الأوراق في رهانتها المتصارعة، فاللعب على التنقضات القبلية أوالدّعوات إلى الفيدرالية بأشكال قصووية تتوسّل معاجم التقسيم، لا تتوانى عن التدخل في كل تفاصيل المشهد الليبي ومحاولة التأثير في كل مجريات العملية السياسية في البلاد.

فإيطاليا التي ترتبط تاريخيا بليبيا من خلال إرث استعماري كبير، تلعب ورقتين أساسيتين في المشهد الليبي، الأوّل يتعلّق أساسا بالمصالح الاقتصاديّة، والنفط أساسا من خلال شركتها "إيني" والثاني يتعلّق بالهجرة غير الشرعيّة باعتبارها أهم ملف في السياسة الخارجية الإيطالية لما يمثله من ثقل كبير.

ويمثّل الجنوب الليبي تحديدا، نقطة التقاط مركزية لهذه الورقات الإيطالية، فهو أحد أهم منابع الثروة في ليبيا وأهم نقطة عبور وبوابة رئيسية لأفواج المهاجرين القادمين من إفريقيا، لذلك تسعى روما لتكون فاعلا مهما في ساحة ليبيا الجنوبيّة وهو مادفعها على سبيل المثال إلى رعاية المصالحة بين التبو وأولاد سليمان، حيث أعلنت وزارة الداخلية الإيطالية إبرام قبيلتي أولاد سليمان والتبو من جنوب ليبيا حيث نصّ الاتفاق أساسا على ضبط حدود هذا البلد الجنوبية أين يتكثف نشاط مهربي المهاجرين.

أمّا فرنسا التي كان لها الدّور الأكبر في إسقاط نظام العقيد معمّر القذّافي، والتي تمتلك قواعد عسكرية شمال النيجر قرب الحدود الجنوبية الليبية، والتي تراهن على هذه المنطقة كأحد مصادر الثروات الباطنية من نفط وغاز ومعادن فإنها تسعى إلى بسط نفوذها على المنطقة، مستندة على إرث تاريخي حيث كان إقليم فزان يقع لفترة طويلة قابعًا تحت السيطرة الفرنسيّة. وفي هذا السياق يقول محمود جبريل المسؤول بالمجلس الانتقال الليبي سابقا في حوار مع صحيفة الحياة اللندنيّة: "فرنسا أيضاً تتحرك في الجنوب، تحديداً مع قبائل التبو. لدينا في ليبيا تنوع إثني، وهذا من المكونات الثقافية للمجتمع الليبي: الأمازيغ، والطوارق، والتبو التي هي قبائل ليبية جاء بعضها من أصول إفريقية في جنوب البلاد. كانت هناك اتصالات مع قبائل التبو وبعضها له امتدادات داخل تشاد، فالقبيلة موزعة بين الأرضين، من المنظور الفرانكوفوني القديم أن تشاد والنيجر بعد نهاية الاحتلال الايطالي، كانت الفزّان أو الجنوب في فترة الوصاية تحت سيطرة الفرنسيين، فكانت هناك اتصالات تصب في هذا الاتجاه".