لم يكن موضوع التهجير والنزوح قبل سبع سنوات، واردا عند الشعب الليبي، إلا خلال نشرات الأخبار، وفي عناوين الصحف التي تتناول معاناة الشعوب التي عاشت مآسي الحروب، ولم تكن لليبيين علاقة بمثل هذه الموضوعات إلا على سبيل إرسال الحملات الإغاثية، واستقبال ضحايا الحروب والمجاعات من دول الجوار الأفريقي.

وبالتزامن مع اندلاع الأحداث في فبراير سنة 2011، وانطلاق أعمال العنف في عدة مدن ومناطق من ليبيا ضمن موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة العربية، شهدت ليبيا موجة تهجير ونزوح ارتبطت بالمناطق التي دارت بها المواجهات العسكرية لا سيما تلك التي فرضت المجموعات المسلحة السيطرة عليها، فطالت معظم المدن الليبية، وزادت وتعاظمت حالات النزوج والتهجير، في  شهر أغسطس 2011 عندما تمكنت "المعارضة المسلحة" من السيطرة على البلاد تقريبا بعد سقوط العاصمة طرابلس، حيث باشرت المليشيات والمجموعات في ممارسة سياسة الانتقام ضد كل من وقف في صف النظام، وكانت نتيجة ذلك ليس تصفية الحسابات مع المسؤولين وأفراد القوات المسلحة وغيرهم بشكل فردي، بل تمت ممارسة العقاب الجماعي، والذي كانت نتيجته تهجير سكان وأهالي مدن ومناطق بالكامل، في موجة نزوح وتهجير ضخمة لم يشهدها تاريخ ليبيا منذ الغزو الإيطالي في بداية القرن العشرين.

·        تضارب في المعلومات واتفاق على كارثيتها

ينقسم التهجير إلى قسمين رئيسين يتمثلان في التهجير الخارجي، وهو مغادرة البلاد واللجوء إلى دول الجوار وغيرها، أو التهجير الداخلي والمعروف بالنزوح، وهو الانتقال من مدينة إلى أخرى داخل البلاد، وفي ليبيا على الرغم من الأعداد الكبيرة التي تأثرت بالحرب وانتقلت في موجات التهجير والنزوح بقيت المعلومات والإحصائيات غير دقيقة في توثيق العدد الحقيقي للمهجرين، وذلك لعدم وجود مؤسسات مركزية مستقرة في الدولة، ولصعوبة عمل المنظمات الإنسانية والحقوقية المحلية والدولية نظرا للظروف الأمنية في ظل سيطرة مجموعات غير منتظمة على السلاح، وهناك تقديرات جمعية الهلال الأحمر الليبي، بالتطابق مع معلومات وبيانات  منظمات حقوقية محلية قدرت أعداد المهجرين في الداخل والخارج بما يزيد عن مليوني شخص منذ بداية أحداث فبراير 2011.

وأوردت جمعية الهلال الأحمر الليبي في تقرير نشرته عقب اندلاع الأعمال المسلحة في عدة مدن ليبية عقب الانقسام السياسي سنة 2014، معلومات وبيانات تفيد بأن "عدد المهجرين بالداخل والخارج ما بعد أحداث فبراير 2011 يقدر بمليون و270 ألف شخص، وكذلك هناك نازحون بالداخل جراء أحداث العنف التي اندلعت بطرابلس وبنغازي في مايو 2014 يقدر بـ410 ألاف شخص موزعون على بنغازي ورشفانة وتاورغاء والمشاشية والقواليش وككلة واوباري وبراك الشاطئ والنوفلية بن جواد وجرمانة والطوارق بغدامس".

·        الكارثة بلغة الأرقام

في سنة 2015 أصدرت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا تقريرا حول معاناة النازحين والمهجرين في ليبيا ضمن موجات التهجير المتتالية، وكشفت عن معلومات وبيانات تؤكد خطورة الأحوال، وتحذر من تفاقم الأوضاع، حيث كشف التقرير أن عدد النازحين والمشردين داخلياً جراء أحداث العنف التي اندلعت بعد سنة 2014 يقدر بحوالي 519 ألف نسمة، بينما بلغت نسبة النازحين والمشردين داخليا بعد أحداث فبراير 2011 مليونا و 256 ألفا.

ومن المعلومات التي أوردها التقرير أن نصف سكان ليبيا تقريبا تضرروا بشكل مباشر من الأحداث، حيث بلغ إجمالي سكان ليبيا المتضررين من الأزمة 3،8 مليون أي 49% من إجمالي سكان البلاد، وأن 87% من النازحين يعانون الاكتئاب والقلق والخوف والاضطراب النفسي والكوابيس، وتنتشر بينهم الأمراض العضوية والنفسية، لاسيما تلك المرتبطة بظروف الحرب والهجرة والنزوح.

واتفقت أغلب التقارير التي أعدتها عدد من المنظمات المحلية والدولية بأن حالات التهجير والنزوح شملت معظم المدن الليبية، ومن بينها بنغازي ويبلغ عدد المهجرين والنازحين منها 27 ألف نسمة ودرنة 7 ألاف نسمة وسرت 13 الف عائلة، والكراريم وطمينة 8 ألاف نسمة و طرابلس 10 نسمة وورشفانة 260 الف نسمة وككلة 12 الف نسمة والطوارق بغدامس 4 الف وخمس مائة نسمة والجرامنه بدرج 3 الف 345 نسمة والمشاشية بالعوينية 18 الف نسمة والقواليش 3 الف نسمة.

·        قرارة القطف.. العقيلة الجديدة

 وتبقى مدينة تاورغاء استثناء من حيث العدد وطريقة التهجير، حيث تحولت من مدينة يسكنها ما يزيد عن 40 ألف نسمة، إلى مدينة أشباح بعد تهجير كامل أهلها عقب هجوم مليشيات مسلحة من مدينة مصراتة في منتصف شهر أغسطس 2011، قامت خلاله بحملة اعتقالات وتصفية ميدانية وطرد وملاحقة كل الأهالي بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن، ولم تكتف بذلك بل قامت أيضا بتدمير وحرق عدد كبير من البيوت ونهب وسرقة الممتلكات العامة والخاصة.

وتحول أبناء مدينة تاورغاء بالكامل إلى سجناء ومعتقلين، أو مهجرين ونازحين، ليستوطنوا مخيمات النزوح على أطراف المدن المختلفة في ظروف أقل ما توصف به أنها غير صالحة للحياة الإنسانية. وعلى الرغم من فداحة الوضع الذي يعيشه نازحو تاورغاء، ونداءات المنظمات الإنسانية والحقوقية المحلية والدولية، بقيت معاناتهم طيلة سبع سنوات بل وازدادت سوءا في الكثير من الأحيان، وبقيت عودة أهالي المدينة حلما بعيد المنال، ولعل ما شهدته الأيام القليلة الماضية خير دليل على ذلك، عندما بادر النازحون من عدة مدن ومناطق بالعودة تنفيذا لاتفاق تم بين مسؤولي مدينتي مصراتة وتاورغاء، برعاية حكومة الوفاق فوجؤوا بتعنت المجموعات المسلحة التابعة لمصراتة التي اعترضت قوافل العودة السلمية قبل الوصول إلى مدينة تاورغاء، ليبدأ فصل جديد من مأساة التهجير حيث أصر الأهالي العائدون على البقاء في أقرب منطقة يمكنهم المكوث فيها انتظارا للعودة إلى ديارهم فكان اختيارهم منطقة "قراراة القطف" في الحدود الإدارية بين بني وليد ومصراتة، لتتحول إلى عنوان جديد للمعاناة، يعرف الجميع متى بدأت ولا أحد يتنبأ بموعد انتهائها، هذا ما لم تتحول إلى "مخيم العقيلة" الجديد.

·        الآثار النفسية والاجتماعية والصحية

للتهجير والنزوح آثار متعددة، مباشرة وغير مباشرة على المجتمع بشكل عام وعلى المهجرين بشكل خاص، إذ يتفق الباحثون والمهتمون على أن للتهجير والنزوح آثارا سلبية بالمطلق، وتزداد تعقيدا وعمقا كل ما زادت الفترة الزمنية، ونوعية الممارسات التي أدت للنزوح، وما تصاحبه من معاناة، وهنا سنركز على الآثار النفسية والاجتماعية، ثم الاقتصادية.

تحت عنوان "الآثار النفسية والاجتماعية والصحية على ضحايا الحروب والنزاعات الأهلية" نشرت الباحثة الليبية "سليمة علي" ورقة بحثية تطرقت فيها إلى الآثار والنتائج المترتبة عن النزوح والتهجير، مستشهدة بعدة دراسات علمية متخصصة. واعتبرت الباحثة، أن للتهجير والنزوح آثارا نفسية واجتماعية وصحية تفوق الآثار المادية وإعادة الإعمار لما ينتج من الحروب من دمار، حيث تناولت الحروب التي صاحبت أحداث "الر بيع العربي"، قائلة "للحروب وما حدث في بلدان الربيع العربي ومنها ليبيا، آثار نفسية واجتماعية خطيرة جدا تحتاج فترات علاج طويلة وإعادة تأهيل نفسي كبير، ودعم دولي وحكومي محلي لأن هذه الآثار لا تقل أهمية عن الآثار المادية وإعادة البناء وإنما تزيد عليها".

وتبرز الآثار الاجتماعية والنفسية بشكل أكبر على الأطفال والنساء الذين عادة ما يكونون الضحية الأكبر، علاوة على التصدع الاجتماعي الذي يطر أعلى المجتمع مثل تصاعد وتنامي ظاهرة الجرائم العنيفة نتيجة عدم قدرة الدولة على احتكار السلاح وانتشاره بين الفئات المختلفة، وانتشار ظاهرة العنف المجتمعي، المتمثلة في الاحتكام إلى العنف لحسم الخلافات المجتمعية، وهو ما تترجمه الخلافات العائلية التي تتحول إلى اشتباكات مسلحة.

·        الآثار الاقتصادية

يتأثر الاقتصاد الوطني لأي دولة مهما كانت قوته وبشكل مباشر بنتائج الحروب وما يترتب عنها من حالات تهجير ونزوح، حيث تحدث هذه الحالات خللا في العملية الاقتصادية بسبب توقف الأنشطة الانتاجية بسبب تعذر تنفيذها، نتيجة غياب العامل البشري علاوة على الدمار الذي يترتب عن الحروب أصلا.

في حالات التهجير كما في الحالة الليبية، اضطرت معظم الكفاءات التي كانت تعتمد عليها الدولة في تسيير أمورها إلى مغادرة البلاد هربا من بطش المليشيات، وهو ما نتج عنه تفريغ البلاد من قدراتها المسؤولة عن تسيير وإدارة الاقتصاد الوطني، وهذا يجعل من الخسارة مضاعفة ومزدوجة إذ تترتب عنها خسارة الكوادر البشرية لفرص عملها ومصدر رزقها، وخسارة البلاد لإنتاجها، وقدرتها على قيادتها لاستعادة وضعها الذي كانت عليه.

على الرغم من اتفاق الجميع على الصعيدين المحلي والدولي، بأن الحل في ليبيا يبدأ بملف المهجرين والنازحين، حتى أصبحت لا تخلو كلمة أو مباحثات بين الساسة الليبيين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم إلا وزج بهذا الملف فيها، ولكن ذلك لا يتجاوز كونه لزمة خطابية وصلت إلى حد الابتذال الذي جعلها تفقد أثرها وتأثيرها، بل أن ملف التهجير والنزوح تحول إلى ورقة سياسية بروتوكلية، ونوع من "البرستيج" الذي يعمد الساسة لإظهاره في المحافل وعبر وسائل الإعلام، لنيل المكاسب، فيما تبقى الخسائر وأثارها يتكبدها ويعانيها المهجرون والنازحون.