يصنّف العام 2011 على أنه عام نكبة على الآثار الليبية، فمنذ الأيام الأولى لحرب 17 فبراير، فقدت ليبيا أهم وأندر القطع الأثرية في تاريخها على الإطلاق حيث سرقت من البنك التجاري الوطني في بنغازي، أقدم مجموعة نقدية مكونة من 7700 قطعة نقد ذهبية، وفضية، وبرونزية من العهد القديم يعود تاريخها إلى زمن الإسكندر الأكبر، أطلق عليها اسم 'كنز بنغازي'.

لم تكن ليبيا خلال تلك الفترة بمنأى عن عصابات التهريب الدولية في هذا البلد الممزق، فقد تحين أفرادها الفرص ليدخلوا إلى أراضيها ويجردوها من أثمن كنوزها، وسط تبادل إطلاق النار بين قوات القذافي و"الثوار". دخلت إحدى العصابات المدربة الأراضي الليبية في مهمة واضحة المعالم، وهي سرقة كنز بنغازي الذي يضم أغلى وأندر الآثار على مر عصورها.

وعلى الرغم من وجودها في البنك التجاري الوطني، داخل خزائن فولاذية مغلفة بأخرى خرسانية إلا أن تلك العصابات استطاعت الحصول على أقدم القطع الأثرية، من نقود معدنية، ومجوهرات وتماثيل لها قيمتها التاريخية في التراث العربي، والغريب أن عناصرها خلفوا وراءهم قطعاً أقل قمية، ما يثبت أنها شبكات متخصصة أتت لتجرد ليبيا من موروثها التاريخي.

وشهدت مناطق ليبيا اعتداءات عدة على المواقع الأثرية القديمة في مدن طبرق ودرنة والبيضاء وشحات وطلميثة وبنغازي، ورغم التكتم الذي ساد الأوساط السياسية الليبية بعد حادث السرقة ببنغازي، خوفاً من ردود الفعل العكسية، إلا أن السرقة المدوية لم تكتشف إلا بعد أن ظهرت بعض هذه القطع في الأسواق الليبية.

معطيات وأرقام صادمة

مطلع العام 2018 نشرت ‏مؤسسة البيرو للصحافة والبحوث تقريراً صادما يرصد حجم الآثار الليبية المهربة من الـ2011 وحتى العام 2017، وقد تصدرت بحسب التقرير كل من بريطانيا وإسرائيل قائمة الدول التي تم تهريب الآثار الليبية إليها، فضلا عن إسبانيا وإيطاليا وتونس ومصر وأمريكا وفرنسا.

التقرير كشف عن النقاط التي تم استخدامها خلال عمليات تهريب الآثار الليبية والتي تتمثل في الحدود الليبية المصرية والحدود الليبية التونسية ومطار إمعتيقة ومطار اسطنبول، وذكر التقرير المدن الليبية المصنفة تحت الخطر وفقاً لمجلس المتاحف الدولي ICOM وهي غدامس وصبراتة ولبدة وسوسة وجبال أكاكوس. أما أهم المدن المسروقة فتمثلت بمدينة سوسة وشحات وصبراتة وسرت وبني وليد وجبل نفوسة ومدينة توكرة وطلميثة.

وأهم القطع المفقودة كانت في كل من “كنز بنغازي” حيث سرقت منها 364 قطعة عملة ذهبية و2433 فضية و4484 برونزية و”متحف بني وليد” حيث فقدت منه في سنة (2011 و2013 و2015) 113 قطعة أثرية و”متحف سوسة” الذي كانت مفقوداته في سنة(2011) 5 قطع فخارية لسور الحمراء. واختتم التقرير بالكشف عن أهم المتاحف المسروقة وهي متحف توكرة ومتحف شحات ومتحف صبراتة الكلاسيكي ومتحف السرايا الحمراء ومتحف مصراتة ومتحف بني وليد ومتحف طلميثة.

وكانت آلافٌ من القطع النقدية والأثرية الثمينة قد سرقت من خزانة البنك التجاري ببنغازي خلال أحداث 17 فبراير، حيث أشارت بعض التقارير آنذاك أن حريقاً شب في المصرف نتيجة القتال الدائر خارجه، بينما يغلب الظن حالياً على أن ذلك الحريق كان جزءاً من عملية سرقة مخططة كانت تستهدف ما يسمى بـ"كنز بنغازي" الذي كان مودعاً في هذا البنك. وكان الكنز يحتوي على أكثر من عشرة آلاف قطعة بما في ذلك عملات تعود إلى العصر اليوناني والروماني والبيزنطي والعصور الإسلامية الأولى، إضافة إلى عدد من الكنوز الأخرى مثل التماثيل الصغيرة والمجوهرات. وقد قام اللصوص بحسب معاينة القائمين على البنك بنقب السقف الخرساني للبنك كي يصلوا إلى العملات الأثرية، ومن الواضح أن اللصوص كانوا يعلمون جيداً ما يريدون تحديدا، حيث أن السطو تم على الأشياء الثمينة فقط، في حين ذكر مسؤول ليبي أنه تم إخطار الإنتربول بالسرقة وأنه تجري حالياً مراقبة أسواق الآثار على مستوى العالم.

الآثار الليبية تباع علنا على الانترنت

صيف العام 2011 أعلن عن ضبط عشرات القطع الأثرية في دول الجوار الليبي في طريقها للتهريب إلى أسواق عالمية لبيع الآثار. وقد كُشف حينها عن عصابة مكونة من تونسيين وليبي، جرى ضبطهم في تونس أثناء تهريب قطع أثرية ومخطوطات تقدر بملايين الدولارات، وقبل ذلك، ألقت السلطات الجزائرية القبض على مهرب آثار ليبي، كان يتجه عبر الحدود بكمية من القطع لإيصالها إلى بعض التجار.

زاد ضعف الأجهزة الأمنية وانقسام المؤسسات المعنية في البلاد، منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، من ظهور جريمة نهب الآثار إلى حدّ إعلان تجار عن بضائعهم على شبكة الإنترنت، بل تم فتح صفحات متخصصة على شبكات التواصل الاجتماعي علناً.

تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً فعالاً في تمرير المنتجات ومن بينها الآثار، حيث تم رصد مجموعة من المجموعات السرية على الفيسبوك والتي تعرض فيها الآثار الليبية بشكل علني، ويتم عرض القطع مع مزادات من قبل زبائن ليبيين وآخرين من جنسيات آخرى، بالإضافة إلى طرق توصيل مختلفة يطرحها التُجار لزبائنهم .

و قد ظهرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي على غرار صفحة "بيع وشراء أراض وعقارات وتحف نادرة في ليبيا" أشهر منصات بيع الآثار الليبية، اشتهرت بين تجار ومهربي الآثار طوال عامي 2015 و2016 لتقفل بعد موجة انتقادات واسعة أطلقها ناشطون ليبيون. لكنّ من كان يتخذها مساحة للإعلان عن بضاعته تحول إلى منصات إعلان أخرى تعج بها شبكات التواصل.

في المقابل يشتهر موقع "سوق ليبيا المفتوح" بمشاركته في هذه التجارة غير القانونية إذ يسمح للمهربين بعرض بضائعهم وترك عناوينهم وأرقام هواتفهم وصور لعينات الآثار التي يرغبون في بيعها، فتجري المزايدة على سعر القطعة الأثرية المعروضة من خلال التعليقات، كما تعرض بعض صفحات الإنترنت بيع آلات التنقيب، وأهمها أجهزة الكشف عن المعادن التي تكشف عن وجود الذهب والمسكوكات.
من أشهر قطع الآثار الليبية التي بقيت قيد التداول والمزايدة بين المهربين والمهتمين بجمع النوادر، مخطوط لكتاب ديني يهودي لا يعرف تاريخ كتابته، وقد عرض على أغلب منصات الإعلان عن بيع الآثار وسط حديث متزايد عن وجوده لدى مهرب آثار بجبل نفوسة، غرب ليبيا.
ومن القطع الأثرية الأخرى مخطوطة في تدبير بدن الإنسان لرئيس أطباء الدولة العثمانية صالح بن نصرالله الحلبي (توفي عام 1670) بالإضافة إلى كتب بطبعات حجرية قديمة، وعلى مستوى الموجودات الأثرية، عرض تجار عشرات القطع من مصابيح وتماثيل وجرار وأنواعاً من المسكوكات التي تعود إلى فترات ليبية قديمة ضمن العهد الإغريقي في شرق البلاد، والروماني في غربها، والعهد العثماني أيضاً.

ويعرض أحد التجار (اسم مستعار) ما يقرب على الألفي قطعة نقدية يهودية ذهبية ويؤكد لزبائنه أن الذهب الذي صنعت منه هذه القطع هو ذهب قديم وحقيقي ويصعب تقليده، بل لا يتوانى في توفير المزيد من الآثار في حال طلب زبائنه لأنواع وأشكال معينة .

ويقول تاجر آخر ضمن ذات المجموعة "لا يهمني من سيشتري البضاعة حتى ولو كانوا يهوداً، المهم أن يكون قادراً على دفع ثمنها، وأن هذه الآثار موجودة في جبل نفوسة والاتجار بها دارج، حيث يروي أن استخراج هذه الآثار والعملات يستلزم التنقيب عنها وفي وجود شيخ أو عرّاف لفك بعض الطلاسم والتعويذات لأن أغلب مواقع هذه الآثار مسكونة (على حد تعبيره).

كما يضيف أنه بإمكانه تسليم البضاعة في الجبل أو عن طريق المعبر الحدودي الليبي التونسي أو عن طريق مطار إسطنبول، وأن تجار الآثار يفضلون التعامل بتماثيل المرمر والعملات الذهبية والفضية لسهولة حملها وارتفاع قيمتها المادية.

ويستهدف العديد من المهربين المواقع الأثرية الليبية الممتدة على طول الساحل الليبي المطل على بحر الأبيض المتوسط حتى مواقع في وسط وأقصى الجنوب الليبي لغرض الاتجار بها خارج الحدود الليبية، فوفقاً لمصلحة الآثار الليبية فقد تم حصر أكثر من 50 متحفا في العالم تعرض فيها آثار منهوبة من ليبيا، ومن بين هذه المقتنيات عُملات إغريقية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، كما حازت على المئات من التماثيل والمنحوتات الإغريقية والرومانية وتماثيل طينية والعشرات من الأواني الزجاجية بالإضافة إلى أكثر من ألف أثر من الفخار الإغريقي والروماني و25 كأساً من الكؤوس الباناثينية والتي كانت تُمنح كإحدى رموز وجوائز في الألعاب الأثينية.

ليبيا تتحرّك لاسترجاع آثارها المنهوبة

تعرّضت الكثير من المدن الليبية للنهب والسرقة ولكن أكثرها في المدن المفتوحة كشحات وضواحيها، كذلك جبل نفوسة الذي يتعرض لأعمال النبش والتنقيب الخارج عن القانون، حيث قامت العديد من المجموعات بنبش المقابر الرومانية والإغريقية هناك.

ويقرّ مسؤلو مراقبة الآثار في ليبيا، بعدم قدرة مصلحة الآثار القيام بأي رد فعل رادع لمافيات التهريب، رغم مُتابعة هذه المُتاجرات العلنية على الفيسبوك، كما أنه من المحيّر أن بعض القطع المهربة تتجاوز أوزانها الأطنان كالتماثيل الثلاثة التي عُثر عليها بسويسرا منذ فترة والتي يبلغ حجمها كحجم الإنسان الطبيعي ولكن في المقابل هناك أثار وقطع نادرة كبعض العملات المعدنية والتي يمكن تهريبها داخل جيب بنطلون، حيث تُعد من أسهل أنواع القطع الأثرية تهريباً ومروراً من المعابر والمنافذ الحدودية البرية أو الجوية.

وتبذل مصلحة الآثار جهداُ واسعاً لاسترجاع الآثار الليبية من خلال التبليغ عنها دولياً وقيامها بتحريات موسعة من قبل الجهات الأمنية، وتم التواصل مع العديد من المنظمات الدولية والإنتربول للتبليغ عن هذه الآثار، وفي حال اكتشاف أي أثر ليبي سيتم التحفظ عليها من قبل جهاز الجمارك في كل دول العالم.

كما يتابع قسم المسروقات بمصلحة الآثار مع الجهات الأمنية والقضائية في تلك البلدان، فضلا عن متابعة ما يعرض من الآثار الليبية داخل المزادات العالمية، حيث أن بعض الأثرياء الأجانب يتعاونون بشكل ودي لإبلاغ مصلحة الآثار إذا ما كانت هناك أي مزادات داخل الصالات الفنية في الخارج لعرض هذه الآثار ليتم استرجاعها بشكل سريع.

و تؤكد مصلحة الآثار في طرابلس أن العديد من الآثار تعرض في مزادات للبيع في بيوت الأثرياء حول العالم بعد تهريبها من ليبيا سنة 2011. حيث تم التبليغ على عدد من الآثار المنهوبة خارج ليبيا في سويسرا ولندن وباريس وأمريكا وتونس ومصر وإسرائيل منها ما هو مسروق من المتاحف والمخازن الليبية، ومنها ما هو نتاج للحفر العشوائي وغير القانوني.

كما أن هناك أثارا ليبية مسجلة ولها رقم تسلسلي معين وبمجرد العثور عليها في أي مكان في العالم يمكن للدولة المطالبة باستراجاعها،أما القطع المهربة عن طريق التنقيب والتي تقبع في باطن الأرض لا يمكن المطالبة بها لأنها غير مسجلة ومثبتة الملكية لليبيا إلا في حالات استثنائية كالتماثيل الرخامية التي تخص بيرسيفوني زوجة آله الموت والتي عثر عليها في سويسرا، حيث تم الاعتراف بملكية ليبيا لها لأن هذا النوع من التماثيل لم ينحت إلا في إقليم قورينا.

أما في إسرائيل فتوجد أربعة رؤوس لتماثيل ليبية منهوبة ويد لتمثال آخر ولكن إلى الآن لم تسترجع لأسباب دبلوماسية، وتم الاتفاق مع اليونسكو لتسليم الآثار الليبية المنهوبة هناك. بينما في فرنسا فقد تم استرجاع منحوتة رخامية لمجموعة من الخيول سرقت من مدينة شحات. وفي لندن تم الاعتراف بتمثال بيرسيفوني بأنه مسروق من ليبيا ومعروض للبيع بأحد قاعات بيع الآثار بلندن، حيث حكمت المحكمة باسترجاعه وهو الآن موجود بالمتحف البريطاني وسيتم إرجاعه إلى ليبيا عند استقرار الأوضاع.

هذا وتقوم مصلحة الآثار في استرجاع بعض القطع، حيث تقوم بحصر ما لديها من مسروقات ضمن قسم المفقودات والمسروقات في المصلحة ويتم التبليغ عنها مكتب الإنتربول الدولي، حيث يتم نشر معلومات هذه الآثار على الموقع الرسمي للإنتربول، أما البعض الآخر والذي تنقصه المعلومات والصور فتعمل المصالح المعنية على إعداد مذكرات إلى الإنتربول بخصوصه.

محلياً يتم التبليغ عن ضياع الآثار من قبل مراكز الشرطة أو الشرطة السياحية وحماية الآثار، ويعمل محضر بذلك يتم بموجبه تبليغ مكتب الشرطة الجنائية الدولية بليبيا الذي يحيله إلى الإنتربول الرئيسي ويجري تعميمه لكل دول العالم حتى يتم استرجاعه فور العثور عليه.

ومن ناحية قانونية فإن القانون رقم (3) لسنة 1995 الخاص بحماية الآثار والمتاحف والمدن القديمة يقول إن الاتجار بالآثار ممنوع ولا يجوز ولكن لائحة العقوبات تحتاج إلى تعديل لأنها ليست رادعة بما يكفي.

يشير مكتب الآثار المسروقة بمصلحة الآثار ببنغازي أن أغلب المتاحف في فترة التسعينات تعرضت للنهب بسبب فتح الحدود مع الدول المجاورة بشكل مطلق من ضمن هذه السرقات متحف توكرة وطلميثة وسرت، بالإضافة للمتاحف الكبرى الثلاثة كمتحف السرايا الحمراء ومتحف صبراتة وشحات .

كما سُرقت أكثر من 150 قطعة أثرية من مخزن البعثة الأميركية المُنقبة عن الآثار سنة 2000، حيث تمكنت ليبيا من استرجاع البعض منها من ألمانيا وسويسرا،أما بعد سنة 2011 فيعتبر "كنز بنغازي" من أهم السرقات، وهو يحوي أكثر من 10 ألاف قطعة أثرية معظمها عملات رومانية وإغريقية وبيزنطية كلاسيكية وقليل من العملات الإسلامية، بالإضافة إلى 113 قطعة أثرية فخارية ومصابيح وجرار حفظ رماد الموتى سرقت من متحف بني وليد.

وتعرض متحفا مصراتة ومصراتة الكلاسيكي أيضاً في أكثر من مرة للسرقة والنهب فالمتحف الكلاسيكي تعرض للسطو ليلة 23 من فبراير 2013. كما سرقت 5 أوان فخارية لسور الحمراء من متحف سوسة في يوليو 2011 .

لا تُعد ظاهرة تهريب الآثار الليبية من الظواهر المستحدثة مؤخراً، بل هي قديمة ومتأصلة لدى العديد من المافيات الإقليمية والدولية، حيث أصبحت المواقع الأثرية الليبية هي القُبلة الأولى لهم وللقراصنة الأجانب الذين يقصدون هذه المواقع لغرض التنقيب والبحث عنها، كما ساهم تردي الوضع الأمني في تفاقم هذه الظاهرة مما سبب في زيادة قصوى لقيمة الطلب والعرض في سوق التهريب.