منذ العام 2011، دخلت ليبيا في دوامة صراع داخلي متشابك ومعقد نظرا لتعدد الأطراف، ولم تستطع الحكومات الليبية إحراز تقدم صوب إنهاء أعوام من الاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة التي مزقت البلاد.كما لم ينجح الدعم الأممي والغربي في تكريس سيطرة حكومة الوفاق الليبي برئاسة فايز السراج والتي أفرزها اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015.

وبرغم إعلان جميع المعنيين بالشأن الليبي دوليا دعمهم للاتفاق السياسي والمجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة عنه،فان المواقف الدولية غير موحدة تجاه الازمة الليبية.ومع الحديث عن التواجد العسكري على الأرض يظل الغموض السمة الأبرز للموقف الأمريكي حول الملف الليبي.

الوجود العسكري

من جديد يعود الى الأضواء الحديث حول حقيقية وجود تدخلات سرية خارجية على المستويات اللوجستية والمخابراتية والعسكرية فى ليبيا.حيث قال الجنرال توماس والدهوسر، قائد القوات الأميركية في أفريقيا، إن "هناك قوات خاصة أمريكية محدودة العدد في ليبيا، وتتولى عمليات استخباراتية بطائرات استطلاع دون طيار انطلاقا من قاعدة في تونس". وأضاف خلال مؤتمر صحفي: يوم الجمعة 24 مارس 2017: "واشنطن لديها حاليا مجموعة صغيرة من العسكريين في ليبيا لغايات استخباراتية أساسا، وسنبقي قوة قادرة على الإنتاج الاستخباراتي والعمل مع مختلف المجموعات عند الحاجة لتتمكن من مساعدة حكومة الوفاق الوطني على مهاجمة أهداف لتنظيم داعش".

ويطرح التدخل العسكرى الأمريكى عدة تساؤلات حول طبيعة العملية وأهدافها بالإضافة إلى التأثير السياسى.ففى مطلع شهر أغسطس 2016،شنت القوات الأمريكية هجمات جوية على ما وصفته بمعاقل تنظيم "داعش" فى سرت بليبيا بطلب رسمى من حكومة الوفاق الوطنى الليبية لتكون تلك العمليات العسكرية الأمريكية هى الأولى التى يتم تنفيذها بالتنسيق "المعلن" مع حكومة الوفاق.وأعلن بيتر كوك السكرتير الصحفى للبنتاجون فى بيان له أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما أمر بتنفيذ الضربات عقب توصية من وزير الدفاع الأمريكى أشتون كارتر ورئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد.

وجاء هجوم الأول من أغسطس ضمن عملية شاملة تتكون من ثلاث مراحل بتخطيط وتوجيه القيادة المركزية الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم). حيث أطلق على المرحلة الأولى من هذه العملية إسم "عملية عزم أوديسا"، والتى تتألف من طلعات جوية مخابراتية وعمليات مراقبة واستطلاع مصممة لمواجهة التطرف العنيف فى ليبيا.والمرحلة الثانية التى أطلق عليها إسم "عملية تقاطع أو مفرق الثعبان" استهدفت تحديد الأهداف. أما المرحلة الثالثة، والتى أطلق عليها "عملية برق أوديسا"، فتشمل قيام طائرات مقاتلة بقصف تلك الأهداف.

ولم تكن هذه المرة الأولى التى توجه فيها أمريكا ضربات لأهداف فى ليبيا. اذ سبق أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن زعيم تنظيم "داعش" فى ليبيا العراقى ابو نبيل، تم قتله فى غارة أمريكية إستهدفت مركز قيادة وسيطرة خاص بـالتنظيم على مقربة من درنة فى نوفمبر 2015.ولكن في مقابل ذلك لم تتم الإشارة لعمل أى قوات على الأرض،حتي نهاية يناير 2016،حيث اعترفت الولايات المتحدة بإنزال قوات محدودة فى ليبيا لـ:"فتح قنوات إتصال بالقوات العاملة على الأرض".فيما قالت صحيفة "واشنطن بوست"، الثلاثاء 9 أغسطس/آب 2016، إن جنودا من القوات الأمريكية الخاصة قدموا للمرة الأولى مساندة مباشرة للقوات الليبية التي تقاتل "داعش" في مدينة سرت معقل التنظيم.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين لم تكشف أسماءهم، أن جنود الكوماندوز الأمريكيين يعملون انطلاقا من مركز عمليات مشترك في أطراف سرت، المدينة الساحلية الواقعة على بعد 450 كلم شرق طرابلس والتي يسيطر عليها "داعش" منذ يونيو 2015.وأضافت أن الجنود الأمريكيين يعملون بالتنسيق مع نظرائهم البريطانيين على تحديد مواقع للضربات الجوية ويزودون شركاءهم بالمعلومات الاستخبارية.وفي المقابل،لم يعلق البنتاغون على ما جاء في الـ "واشنطن بوست" الأمريكية، إلا أنه أعلن في وقت سابق أن فرقا أمريكية صغيرة تساعد في إطار العمليات الاستخباراتية في ليبيا.

غموض سياسي

بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة في أمريكا،التزمت الإدارة الأميركية الجديدة الصمت حيال ما يحدث في ليبيا،حيث يرى متابعون للشأن الليبي أن عذه الادارة لم تحدد بعد الطرف الذي ستتعامل معه في ليبيا.وسبق أن أكد قائد عمليات الجيش الأميركي في أفريقيا الجنرال توماس والدهاوز في معرض شهادة أدلى بها أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي،إن بلاده تواجه تحديا كبيرا في ليبيا يتمثل في ضرورة اختيار"أين ومع من نعمل وندعم من أجل مكافحة داعش دون التسبب في اختلال التوازن بين الطوائف المتعددة وبالتالي توسع الصراع في ليبيا بشكل أكبر".

وفي المقابل يرى البعض أن غموض وجهة نظر إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب تجاه ليبيا،لا يمنع تفهمها المحتمل للطروحات المساندة والداعمة للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.وكان مستشار السياسة الخارجية الأميركية وليد فارس قد شــدد أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ستدعم الجيش الوطني الليبي تحت اشراف المشير خليفة حفتر والبرلمان المنتخب.وأَكد فارس في مداخلة عبر قناة "ليبيا الحدث" نهاية شبــاط السابق أن "إدارة ترامب ستتعاطى مع المؤسسة الوطنية العسكرية الليبية تحت اشراف الجنرال حفتر، فهذا الجيش هو المعترف به رسميا من الإدارة، على الرغم من الخلافات السياسية العالمية، ووجود مشاريع لإنشاء جيوش أخرى".

وفي سياق الحديث عن السياسة الأمريكية في ليبيا،أكد مندوب ليبيا السابق لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي، أن المساعد السابق لهيلاري كلنتون ووكيل الامين العام للأمم المتحدة حالياً، جيفري فلتمان، "ما زال مصراً على استمرار الدور التخريبي للحزب الديمقراطي الامريكي في ادارة ملف الأزمة الليبية حتى في ظل الادارة الامريكية الجديدة، التي تبدو عازمة على التعامل بطريقة مختلفة عن سابقتها مع الملف الليبي".

وأوضح الدباشي، في تدوينة، نشرها على صفحته الرسمية "الفيسبوك"،الخميس 23 مارس 2017، أن الادارة الامريكية الجديدة عبرت "عن رغبتها في حل الأزمة الليبية وفق رؤية جديدة تقوم على تسمية الأشياء بأسمائها ونبذ داعمي وممولي التطرّف، والمساعدة في القضاء على التنظيمات الإرهابية خدمة للمصالح الامريكية طويلة الامد"، وهو الامر الذي اعتبره "ابتعاد واضح عن طروحات بعض حلفاء الولايات المتحدة الذين بنوا استراتيجيتهم في ليبيا على استمرار الفوضى في البلدان العربية وتشجيع المزيد من الانقسامات فيها"، حسب نص تدوينته.

وأبدى مندوب ليبيا السابق لدى الأمم المتحدة، رفضه لاقتراح فيلتمان على أعضاء مجلس الأمن شخصية جديدة عقب ترشيحه سابقا لسلام فياض مبعوثا امميا الى ليبيا، مرجحا أن الشخصية الجديدة "قد تكون أسوأ من سابقتها"، خاصة وانه لم "يعير السلطات الليبية الشرعية وغير الشرعية او السيادة الليبية اي اهتمام" بالخصوص. وأوضح الدباشي، أن مرشح فلتمان الجديد يدعى ريتشارد ويلكوكس "يحمل الجنسيتين الامريكية والالمانية وعضو نشط في الحزب الديمقراطي الامريكي".واثني الديبلوماسي الليبي، على خبرة مرشح فلتمان الجديد في المجال الاستخباراتي والدبلوماسي والانتقال من نظام سياسي الى اخر، غير أنه أشار إلى أن ريتشارد ويلكوكس لديه خبرة في تفكيك الجيوش وتقسيم الدول، وهو الامر الذي قال ان ليبيا ليست في حاجة اليه في الوقت الراهن.

نفوذ مقلق

مع تصاعد الحضور الروسي في الساحة الليبية،عبرت واشنطن عن قلقها الكبير من هذا النفوذ.وقالت القيادة الأميركية في إفريقيا على لسان قائد القوات الأميركية في أفريقيا، الجنرال توم والد هوسر،الجمعة 24 مارس 2017،إن ثمة صلةً "لا يمكن إنكارها" بين موسكو والقائد العسكري في ليبيا خليفة حفتر،متحدثة عن وجود روسي على الأرض في المنطقة"، ومعتبرة أن المحاولات الروسية للتأثير في ليبيا مثيرة للقلق".

واتهم توم والد هوسر،روسيا بمحاولة ممارسة نفوذ في ليبيا بوسائل عسكرية وصفقات نفط أو أسلحة.وذهب إلى حد تأكيد وجود قوات روسية على الأرض دون أن يوضح إن كانت داخل ليبيا أو بجوارها.وتعهد والد هوسر بإبقاء قوة في ليبيا لجمع معلومات استخباراتية والعمل مع حكومة الوفاق في طرابلس إذا تطلبت الحرب ضد داعش

وكانت رويترز ذكرت في وقت سابق من مارس آذار الجاري أن روسيا نشرت فيما يبدو قوات خاصة في قاعدة جوية بغرب مصر قرب الحدود مع ليبيا.وذكرت في تقرير حصري أن الولايات المتحدة لاحظت وجود قوات خاصة روسية فيما يبدو وطائرات بدون طيار في سيدي براني بمصر على بعد حوالي 100 كيلومتر من الحدود مع ليبيا،فيما نفت روسيا من جهتها ما ورد في التقرير.

توازنات

لم ينجح الدعم الأممي والغربي في تكريس سيطرة حكومة الوفاق الليبي برئاسة فايز السراج والتي أفرزها اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015.فلم تنل تلك الحكومة ثقة مجلس النواب،كما عانت منذ دخولها إلى طرابلس في مارس 2016،من أزمات وعراقيل وعجزت عن معالجة الملفات الاقتصادية والأمنية التي تفاقمت على خلفية صراع المليشيات المسلحة على العاصمة ذاتها.كما شهدت عديد الخلافات والانسحابات المستمرة بين أعضاء المجلس الرئاسي.

وفي مقابل ذلك،استطاع الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفترتحقيق انتصارات ميدانية هامة في اطار حربه ضد الجماعات الإرهابية في شرقي ليبيا منذ مايو 2014.وبعد السيطرة على غالبية بنغازي والمدن الشرقية،وتوسعه في الجنوب اضافة الى سيطرته على منطقة الهلال النفطي فرض الجيش الليبي معادلات جديدة على موازين القوى الداخلية والخارجية في المشهد الليبي خاصة في ظل الترحيب الشعبي بانتصاراته المتتالية.

وفي ظل المواقف الدولية المرتبكة والغامضة وخاصة الموقف الأمريكي،تجاه ليبيا الممزقة بين عدة حكومات وميليشيات متنازعة على الأرض،تبقى كل السيناريوهات مفتوحة في الملف الليبي.فقد تؤدي التسوية بشأن مصالح الدول الكبرى في ليبيا الى تسوية سياسية ليبية داخلية،وقد يستمر سيناريو دعم الاطراف المسلحة الليبية واستمرار حالة الصراع العسكري في البلاد.