كان يقف على أعتاب تلك المغارة الكبيرة والتي كانت تقع في شرق مدينة ( بنغازي ) في حالة تأمل وهو ينظر إلى ذلك التجويف العظيم .. كان القدامى من الناس في بلادنا تأتون من كل فج عميق إلى تلك المغارة والتي كانت تدعى بكهف ( النسيان ) .. كان يذكر أن هؤلاء الناس يتواردون إلى ذلك الكهف حتى يمكن نسيان ما ألم بهم من خطوب في حياتهم ..لعل ذلك التجويف العظيم يسور فيما وراء وجودهم من هموم الحياة .. فقد كانوا يحملون كل همومهم إلى ذلك المكان اعتقاداً منهم بأن الوقوف على أعتاب ذلك الكهف والنظر بتأمل نحو ذلك التجويف العظيم الذي غمرته المياه بشكل مطلق وأنسابت إلى جوفها العميق قادرة على ابتلاع كل تلك الهموم والأحزان .. كان يهيأ لهم وهم ينظرون إلى ذلك التجويف العميق بأن حياتهم تنضوي تحت سقف تلك المغارة القادرة على مسح الذاكرة البشرية من وقت ما .. شعروا بأن وجودهم تماماً مثل تلك المغارة .. فأنت عندما تطلق ذاتك لتغوص في أعماق المجهول تتساءل .. من نحن ؟!! كنا نقطن قرب ذلك الكهف .. وكان الناس ملتصقين بعضهم مع بعض تماماً مثل أسراب الطيور التي تروح وتغدو معاً كان لا يفصل بيوتهم بعضها عن بعض سوى أزقة ضيقة لا تسمح بمرور شخصين في الغالب .. فلعل وجودهم على ذلك الشكل ينزع من القبوع في الوحدة .. وكأـنهم دفعوا دفعاً ليكون ذا قرابة والتصاق .. وكانوا يشكلون كميوناً صغيراً لا شرطة ولا خدمات عامة تدخل إليه كانوا يضيئون منازلهم بمصابيح الكيروسين وكانوا يطهون طعامهم على مواقد من الفحم وكانت المياه تأتي لهم عن طريق الوراد الذي يحمل الماء على قرب على ظهره أو على عربة يجرها حمار .. كان كل شيء يقدم ذاتياً .. حتى وظائفهم كانت حرة ولا تربط بالدولة بأي صفة من الصفات .. تجار ، اصحاب حرف، مرابون ، مزارعون وعمال تراحيل إلى آخره .. كانت الكتاتيب هي المدرسة وكان الفقى هو الطبيب ؟!! وكانت المشاكل التي تنشب بين سكان الحي يقوم الكبار بحلها دون تدخل الغريب .. وكان أي شخص يرتكب جرماً مهما كان نوعه يرحل من الحي أو يقاطع مقاطعة تامة فيرحل طواعية .. كنا صغاراً وكنا ننظر إلى الحياة بمنظار الليل والإصباح ليس إلا .. كان جل أكثراتنا عما يحيط بنا إلا بما يصادفنا من مواقف .. كان الموت والفرح يحملان لنا أشياءً تختلف عن تصورنا الحاضرة ونحن كبار ..فقد كان الموت يعني لنا الوقوف أمام بيت الميت حتى تحين الفرصة للحصول على أرغفة العيش المغموسة بزيت الزيتون والتي كانت توزع عند تشييع الجنازة .. أما الفرح لنا سوى توزيع الحلوى والعصائر المصنوعة محلياً .. كان القلق الوجودي الذي يلفنا اليوم مرفوعاً عنا عندما كنا صغاراً .. لكن كنا نصادف مواقف تبعث في أنفسنا الحيرة والقلق .. عندما كنا نشاهد القط الذي يلتهم أبناءه وتلك القطة التي تسرع بإنقاذ أبنائها .. كان الألم يتسرب إلى نفوسنا آنذاك وكانت الحيرة تبدو على محيانا .. لماذا ذلك القط يلتهم جراره ؟!! فقد كنا لا ندرك القدر الذي يعبث بما حولنا فالقط والناس لا يمكنهما أن يوجد بدون مراجعة هذا ما أدركناه ونحن كبار .. كنا نشعر بأن الوجود هو مجرد لعبة ليس إلا .. فقد كان اللعب هو شاغلنا الأكبر .. كنا ونحن صغار نحب الاجتماع فكنا نقف على ناصيته الشارع ليلاً وكنا نحث الأطفال الآخرين للخروج إلى اللعب معنا .. كنا نصيح هاتفيين :
حارنين على القنان
مابو يطلعوا يلعبوا في الزنقة
خوافين من اليهود
لباسين طواقي سود
كنا ونحن صغار شديدى الاحتكاك بعضنا مع بعض فنثير الشغب لأتفه الأسباب ودون وعى منا فنحن ننزع نحوه دون إرادة فالشر يظهر لنا أنه نزوع وكذلك الخير .. فالنزوع قد يكون مجرد قدر خارج عن إرادتنا .. نحن نقدم على الفعل بعض الأحيان دون وعى منا .. نتشاجر ولا نعرف سبباً لتشاجرنا كنا نشعر تماماً أننا ذلك الرجل ( سيزيف ) الذي كان يحمل صخرته صعوداً وهبوطاً عن الجبل دون أن يشعر بالملل أو الكلل .. أو قد يكون في بعض الأحيان دون هدف لحمل صخرته هذه .. حتى ألعابنا كانت تتميز بالشدة والعنف عند ممارستها بعضنا مع بعض كنا نشعر بالغبطة تتسلل نحو قلوبنا عندما نهزم أقراننا في لعبة ما .. لم يكن لدينا مفاهيم العدالة ولا الخير ولا الشر ..؟!!
لم نشعر بفاجعة الوجود إلا عندما يمسنا الضرر
كانت الحوادث خاصة الغريبة تشكل جزءاً لوعينا .. الوجودي .. لقد شعرنا بأن للحياة جانب آخر .. عندما فقدنا زميلاً لنا في حادث .. كان الألم ولأول مرة تسرب إلى نفوسنا وكانت بداية الفاجعة الكبرى بأن وجودنا تكلله إرادة خارجة عنا ولم تكن من صنعتا كنا نشعر بأن هناك شبح مثل العنقاء تماماً يعلو على اكتامنا يقودونا إلى المجهول .. ذلك الشبح الجاثم لم يفارقنا يوماً أنه لم يتخل عنا حتى في لحظات الحزن..؟!! كانت أفعالاً يصدر عنا في بعض الأحيان دون وعى منا ولا ندري لماذا .. فالإنسان لا يحب الشر ولكن يجد نفسه مدفوعاً له .. آلية لا قدرة لنا عليها .. فالخير وجودي والشر وجودي .. فهل الشرسابق للخير ام العكس ام هما نزوعا فى ذواتنا البشرية .. ولا يمكن رفعهما عن حياتنا الوجودية .. كان وجودنا متاهة نبحث عن الخلاص دون جدوي أو تفسير .. والواقع أن القدر لا يتخلى عنا في بعض الأحيان بأن خلق في نفوسنا النسيان في كل لحظة .. ويبدو لنا أن الحياة مثل هذا الكهف .. هم بالرحيل عن أعتاب الكهف ولم يترك شيئاً وراءه سوى أن يحمل صورة ذلك الكهف التي ظلت عالقة بمخيلته وشعر بأن كل شيء ظل على حاله كما هو .. وفي طريق العودة شاهد زهرة ( الأقحوان ) وهي تتهادى ما بين صخور الكهف حاول قطفها وما هي إلا هنيهة حتى ذبلت ما بين أصابعه وتلاشت .. وهكذا الحياة مثل زهرة الاقحوان تزهر ثم تتلاشى من امامنا .و لاندرى كم من الزمن نعيش ..