تثير مواقف "حزب التّحرير" في السّاحة السّياسيّة التّونسيّة بتفرّدها و خروجها عن مألوف المصطلحات المُتعارفة في الخطاب السياسي السّائد ,اللّغطَ ,في كلّ مرّة, حول مرجعيّة هذا الحزب و خلفيّته الفكريّة و مشروعه السّياسي .فعموم التّونسيون من غير المتابعين للشأن السياسي قبل "الثّورة" ,و في زحمة الأحزاب التي تناسلت في الأشهر الأولى من رحيل الرئيس السّابق زين العابدين بن علي ,إكتشفوا الكثير من الأطروحات السياسيّة و التنظيمات الحزبيّة التي كان النّظام يضيّق عليها الخناق من خلال القمع السياسي و التعتيم الإعلامي و الملاحقات الأمنيّة التي صحّرت الحياة السياسيّة في تون في نظر الملاحظين و حوّلتها إلى مشهد مسرحي يلعب الدّور الكبير فيه الحزب الحاكم مع مجموعة من أحزاب المعارضة "الأليفة" كما يصفها البعض في حين كانت المعارضة الرّاديكاليّة تعاني الإقصاء و التعتيم و المحاكمات و الملاحقات و السّجون و المنافي ,مما جعل الكثير من هذه التنظيمات الحزبيّة غير معروفة لدى عموم التّونسيين ,و التي جاءت "ثورة 14 يناير" لتضغها في دائرة الضّوء و ترفع لها السّتار لتعرض مشاريعها و برامجها أمام الرأي العام .و لئن إتّفق الخطاب السياسي في معظمه على الخيار الدّيمقراطي بإعتباره السّبيل الوحيد لترجمة إرادة الشّعب من خلال نظام جمهوري تعدّدي يكفل الحريّة السياسيّة و يقطع مع كلّ مناهج الإقصاء و القمع و يفصل فعليًا بين السّلطات الثلاث القضائيّة و التشريعيّة و التنفيذيّة ,فإنّ الخطاب الذي قدّمه "حزب التّحرير" بمرجعيّته الإسلاميّة بدى للبعض "شاذًا" من خلال رفضه للدّيمقراطيّة مقابل دعوته لمشروع سياسي مختلف يتمثّل في إحياء و إقامة "الخلافة الإسلاميّة" .

حزب التّحرير في تونس الأصل و المنشأ و التاريخ :

يُعتبر "حزب التّحرير" في تونس إمتدادًا عضويًا و فرعًا تنظيميًا لحزب التّحرير المشرقي الذي أسّسه عام 1953 م في مدينة القدس القاضي تقيّ الدّين النّبهاني ,كردّ فعل على سُقوط الخلافة العثمانيّة في إسطنبول عام 1924 ,و هو الأمر الذي إعتبره النّبهاني سببًا رئيسيًا في الحالة المتردّية التي دخلت فيها "الأمّة الإسلاميّة" حينها ,و منها سقوط فلسطين تحت طائلة الإحتلال الصّهيوني.و من القدس إنتشر الحزب في كثير من الدّول الإسلاميّة و منها تونس التي تحصّل فيها على التأشيرة القانونيّة يوم 17 يوليو/تمّوز 2012 إبّان حكومة السيّد حمّادي الجبالي .و يعود المؤرّخون بتاريخ دخول الحزب الى تونس الى بداية ثمانينات القرن الماضي حيث عقد مؤتمره التأسيسي الأوّل في يناير/كانون الثاني 1983 زمن حكم الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة ,و منه بدء الحزب عمله الدّعوي و السّياسي من خلال إصداره لنشريّة سريّة تحمل إسم "الخلافة" ,يقول المؤرّخون أنّ دورها كان مهما في توسيع القاعدة الشّعبيّة للحزب و نشر أفكاره و مبادئه السياسيّة.كما يذكر المؤرخّون -على ندرة المعلومات المتوّفرة على تاريخ هذا الحزب في البلاد- أنّ هذه الفترة عرفت محاولة لإختراق المؤسّسة العسكريّة من خلال إستقطاب الضبّاط و العسكريين من أجل القيام بإنقلاب يسرّع إنشاء "الدّولة الإسلاميّة" في تونس ,الأمر الذي تفطّنت له الأجهزة الأمنيّة مبكّرًا فقامت بحملة من الإعتقالات في صفوف الحزب و قياداته منهم عسكريون خاصة من قاعدة "سيدي ثابت الجويّة" في الشّمال و قاعدة الخرّوبة العسكريّة ,حيث خضع قرابة السّتين متهما من قيادات و أعضاء هذا الحزب الى المحاكمة العسكريّة في النّصف الثاني من العام 1983 ,وصلت فيها الأحكام الى الثماني سنوات على العسكريين ,و خمس سنوات على إحدى عشر شخصا من المدنيين منهم "محمّد جربي" زعيم الحزب بتهمة تشكيل جمعية سياسية، والانتساب إليها، وحضور اجتماعاتها، وتحريض عسكريين على الانتساب إلى هذه الجمعية.
و منذ ذلك الوقت بفعل الخيار الإنقلابي التي تبنّاه الحزب للوصول إلى السّلطة ,رغم أنّه في أدبياته السياسيّة يجرّم إستعمال العنف و يدعو الى إعتماد منهج "مقارعة الحجة بالحجة" أي الصّراع الفكري السّلمي القائم على الحوار و النّقاش و المحاججة ,منذ ذلك الوقت دخل الحزب في دائرة من المحاكمات و الملاحقات الأمنيّة نتيجة توجّس الدّول و اجهزتها الإستخباريّة دوما من إعادة محاولته الإنقلابيّة أو إختراق أجهزة الدّولة الحسّاسة ففي مارس/آذار 1990 تمّ تقديم اكثر من مائتي عنصر من الحزب إلى المحاكمة بتهمة توزيع منشورات في المساجد أعقبتها محاكمات أخرى منها محاكمات عامي 1994 و 1996 .و طيلة جكم الرّئيس السّابق تواصلت حملات الإعتقال و المحاكمات التي إستهدفت عناصر الحزب و قيادته ,خاصة بعد إصدار ما سمّي "قانون مكافحة الإرهاب" عام 2003 ,حيث أصدرت في سبتمبر/أيلول 2006 المحكمة الإبتدائيّة في تونس العاصمة حكمًا بالسجن لمدة أربعة سنوات و أربعة أشهر في حقّ ثمانية أشخاص بتهمة الانتماء إلى منظمة محظورة وعقد اجتماعات من دون الحصول على ترخيص ,و منها محاكمات مارس/آذار 2007 و محاكمات العام 2008 الذي عرف في مارس/آذار كذلك إعتقالات شملت 12 عنصرًا من هذا الحزب ,و في يوليو/تمّوز 2009 قضت المحكمة الإبتدائيّة بالعاصمة بسجن 19 من افراد حزب التّحرير في أحكام تتراوح بين 11 و 14 شهرًا .

14 يناير و الخروج إلى العلن :

جاءت "ثورة 14 يناير" لتكشف الكثير عن مكوّنات الجسم السياسي التّونسي الذي كان معزولا خارج الضّوء و خارج المشهد الاعلامي الرّسمي و الذي اخمدت صوته سياسة القمع السياسي المنهج التي إعتمدها النّظام السّابق ,مما جعل الكثير من التّونسيين -كما ذكرنا- يكتشفون العديد من الأطروحات السياسيّة الجديدة و المشاريع المختلفة لأوّل مرّة وسط تكاثر كبير للأحزاب السياسيّة وصلت في الأشهر الأولى للثّورة لأكثر من مائة حزب .و في حين كان الإجماع شبه تام على أنّ الخيار المراد بناءه لهذه الدّولة هو الجمهوريّة بركائز الديمقراطيّة و الحريّة و القانون و المؤسّسات و المساواة و العدالة ,كان موقف "حزب التّحرير" مغايرًا لهذا الطّرح من خلال إعلانه الصّريح لعدم إيمانه بالدّيمقراطيّة بإعتبارها "نظامًا غربيًا" تعطي "الحكم للشّعب" في حين يرى هو أنّ هذا مخالف للشّرع حيث يجب أن يكون نظام الحكم إسلاميًا يحكّم "شرع الله" قاطعًا مع القوانين الوضعيّة التي لا تعتمد "الكتاب و السنّة" مرجعًا أساسيًا لها ,بل ذهب -وسط اللّغط الدّائر حول الدّستور الجديد- إلى تقديم مشروع دستور إسلامي  يوزّعه في المساجد و الفضاءات العامة .و في 17 يوليو/تمّوز 2012 حصل "حزب التّحرير" على رخصة للعمل القانوني و في 22 جوان 2013 عقد الحزب "مؤتمر الخلافة بتونس" في قصر المؤتمرات بالعاصمة حضره بعض ممثّلي فروع هذا الحزب في بعض الأقطار الإسلاميّة مثل «هشام البابا» رئيس المكتب الاعلامي لحزب التحرير بسوريا  واحمد قصص رئيس المكتب الاعلامي للحزب بلبنان

تناقضات الخطاب و "طوباويّة" المشروع :

حصل حزب التّحرير على رخصة العمل قانوني بعد أن تقدّم بطلب في ذلك و مكّنته منه حكومة النّهضة الإسلاميّة ,على خلاف السّلفيين الذين يتقاطعون معه في رفض العمليّة الدّيمقراطيّة و الذين رفضوا في معظمهم -مع استثاءات قليلة- طلب التّرخيص من الدّولة لأنّهم و كما يقولون "لا يطلبون التّرخيص إلاّ من الله"  من أجل تحقيق هدفهم المتمثّل كذلك في "إقامة الخلافة" و "تحكيم الشّريعة" ,و هي ثاني نقاط التّقاطع مع مشروع "حزب التّحرير" ,الذي يبدو أقلّ حسما في الكثير من المسائل و غائمًا في الكثير من مواقفه مقارنة بالسّلفيّة بضلعيها العلمي و الجهادي و حتّى مقارنة مع المدرسة الإخوانيّة المتمثّلة أساسا في حركة النّهضة التي ذهبت أشواطا بعيدة و متقدّم جدًّا -يقول الملاحظون- في تبنّي الخيار الدّيمقراطي و مشروع الدّولة المدنيّة و حسمت في الكثير من المسائل الخلافيّة منها علاقة الشّورى بالدّيمقراطيّة و مسألة الحريات و قضيّة المرأة و الأحوال الشّخصيّة. و هنا يطرح الملاحظون السّؤال حول التّناقض بين "تكفير" الدّيمقراطيّة و الإستفادة من ثمارها و ما تتيحه من حريّة للعمل السّياسي و الدّعاية و التنظّم الحزبي و طرح الأفكار و عرضها للرأي العام بلا تضييق و لا إقصاء ,الأمر الذي لا يبدو انّ حزب التّحرير يكفله لغيره من الأحزاب "الغير الإسلاميّة" إذا تمكّن ذات يوم من الحكم إذ أنّه يعتبر العمل الخزبي في داخل "المجتمع الإسلامي" يكون مقصورًا على الأحزاب الإسلاميّة  دون غيرها .كما يسجّل الملاحظون في سياق تفكيكهم لأطروحات الحزب أنّ المشروع الذي يطرحه كبديل وحيد للنّهوض بحال "الأمّة الإسلاميّة" يبدو طوباويًا خاصة مع عدم وضوح منهج التغيير على خلاف بقيّ أطياف الحركة الإسلاميّة (الجهاديون/منهج إنقلابي جذري عنيف ,الإخوان/منهج سياسي اصلاحي سلمي) .