يتابع العالم منذ أشهر الحرب الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، الشريكين إلى وقت قريب في حكم أعقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير. القوة الأولى هي المؤسسة التقليدية "الشرعية" الخاضعة لسلطة رئيس مركز السيادة عبد الفتاح البرهان، والثانية هي قوة طارئة، تشكلت "بشكل موازٍ" في 2013 من مجموعات "الجنجويد" العربية في إقليم دارفور غرب البلاد ويقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي".

خلال سنوات من تتبع الصراعات في السودان، دائما ما كانت الصورة قاتمة. من الصعب على متابع عربي أن يدرك بشكل واضح تعقيدات الأوضاع، لا في تركيبة المجتمع الذي يحوي تناقضات عديدة فحسب، ولا في مستوى الأعراق المتنوعة فحسب، بل أيضا في مستوى التطورات السياسية التي أفرزت في مرحلة أولى حراكا انتهى بالإطاحة بنظام عمر البشير، ثم في التأسيس لمرحة انتقالية عرفت مخاضا صعبا، لكنه حراك لم يصمد، وواجهته في الحكم لم تصمد طويلا لإغراءات الرغبات الخاصة وعدم نجاحها في بناء كيان سياسي محصن من الخلافات مما انتهى بالأمور إلى الأحداث الأخيرة، التي لا يعرف أي مستقبل لها.

ما تعيشه شوارع السودان اليوم يقدّم صورتين متناقضتين؛ الأولى هي صورة البلد الذي أفرز نخبة من المثقفين ورواد الفكر السياسي العربي والإفريقي، من الذين خلفوا كتابات ثرية وأفكارا ثورية وورثتُها يصارعون في دوائر ضعيفة وغير قادرة على أي تغيير. وهي أيضا صورة البلد المعروف بلطافة أهله وحسن كلامهم. والثانية هي البلد التقليدي المحكوم بالأعراف والنفوذ وسلطة المال والسلاح. وبين الصورتين الثانية هي التي سيطرت وجعلت شعبا جميلا أمام شبح الموت والصراع. الثانية هي التي كانت دائما مكبِّلة ومتخلفة، تخضع لسلطة مؤسسات قديمة جاذبة إلى الخلف وتحرم السودانيين من أي إمكانية نحو النهضة رغم كل ما يتوفر لذلك من ظروف.

الحرب التي خلفت أرواحا وجروحا ودمارا، خلفت كذلك أسئلة عن بنية الدولة ومدى قدرتها على الصمود أمام التعقيدات السياسية والخلافات المناطقية والصراعات القبلية. وجعلت السودانيين أمام امتحان الوعي، وهل أن السودان رغم نخبه وقواه الحية يمكن أن يقبل أفكار الثورة والحرية والديمقراطية، أم أن الواقع غير ذلك تماما، والمشهد قاتم بشكل يجعل ما يحصل اليوم غير مستغرب. والحقيقة هنا أن السودان ليس استثناء، فهو الصورة المماثلة لأكثر من بلد عربي يعاني من ويلات الحروب ومن مهددات التقسيم، والمثقف فيه يكون على الهامش لا دور له إلا الكلمة التي كثيرا ما تهدد حياته، أو البقاء تحت الإسكات القسري.

التاريخ بقتامته يعطينا، نحن البعيدين، انطباعا حزينا عن السودان. البلد الذي يتوارث الفقر والحروب الأهلية، البلد الذي تتقاذفه الأعراق والعشائر والأقاليم، البلد الذي انفصل جزء من خريطته بسبب سياسات خاطئة يعاني تبعاتها إلى اليوم. لكنه يعطينا في جانب آخر، نخبا أنتجت وصارعت وتحّدت لأجل التغيير والتحرر من الماضوية، وربما قلة من يعرفون أن هذا البلد منارة أخرجت عقولا يفخر بها كل العرب والأفارقة. عقولا متعلّمة صارعت من أجل خلق مجتمع متنور مساير لتحولات العصر، وخاضت مواجهات قوية مع موجات الردة الحقيقية، خسرت حياتها في مواجهتها لكنها فازت رمزيا في ترك مشروعها الثوري الجريء بين أيدي الناس وهنا نستحضر شخصية المفكر الكبير "محمود محمد طه".

في العام 1967 أصدر المفكر السوداني كتابا بعنوان"الرسالة الثانية من الإسلام"، طارحا فكرة ثورية حول علاقة الإسلام كدين، بالدولة في مفاهيمها الحديثة. الكتاب وقتها خلف جدلا كبيرا انتهى بوضع الرجل سنة 1985 أمام حكم الإعدام بتهمة إنكار المعلوم من الإسلام والردة عنه وقد نُفّذ فيه بالفعل في فترة حكم جعفر النميري الراغب وقتها في كسب ود التيارات الإسلامية. وحتى التبرئة اللاحقة لم تكن لها أي قيمة وجعلت الحكم شاهدا عن عار تاريخي يلاحق المتسببين فيه حتى وإن التحقوا بعدها.

ما يحتويه الكتاب المذكور هو رؤية مختلفة للإسلام، الذي يقسّمه إلى إسلاميْن؛ إسلام المرحلة المكّية الذي يرى أنه هو الأصل وجوهر الدين والرسالة السامية لله الداعية للمحبة "والتسامح والعدل والرحمة"، وإسلام الفترة المدنية أو"المدينية" الذي ركز على مشروع الدولة الإسلامية بشكل حازم وعلى الاقتصاد والبنية الاجتماعية والحروب وفكرة البقاء والانتشار، وهو الأقرب إلى تصوراته، باعتباره أساس البناء الصحيح لفكرة الدولة بما هي قوانين ومؤسسات وحتى قوّة مسلحة.

ما حمله "الرسالة الثانية من الإسلام"، ثورة على رؤية تقليدية و"تمرّد" غير مسبوق على "مسلمات" لم يكن من السهل الاقتراب منها في العالم الإسلامي، وهو ثورة على مكبلات التقدّم، وبشكل غير بعيد هو الأمر نفسه الذي تبناه في علاقة ببلده المقيد بتقاليد جعلته واجهة للصراعات والحروب. بلده الذي قتله في ذلك الوقت رمزيا كما قتله بعد ذلك فعليا.

طه لم يُصدر كتابه وقتها من فراغ، ولم يكن الرجل طارئا على المشهد السياسي والثقافي في عصره. فرغم أنه سليل بيئة متصوفة تقليدية، لكنه برز وسط جيل كامل من الوعي وتاريخه حامل لمشروع نهضوي بدأه منذ سنوات شبابه الأولى. كما حمل مشروعا سياسيا مناهضا للاستعمار وللملكية ضمن ما يعرف بـ"جمهورية السودان" المؤمنة بالحرية المطلقة والعدالة الاجتماعية، وضمن المشروعيْن كان ملاحقا سجينا "مصنّفا"، لكنه لم يتراجع حتى لحظة تنفيذ حكم الإعدام فيه.

اختيار "محمود طه" ليس انحيازا لفكر معيّن أو تبنٍّ لأفكار كان يحملها، بل هناك من مواقفه ما لا يرضي، أساسا في الموقف من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ولكن فقط لأن الرجل كان صاحب مشروع تنويري متقدّم في عصره، وربما ما تركه كان استباقا لمآسٍ عاشها السودان في سنوات لاحقة. سنوات أظهرت خللا اجتماعيا وسياسيا أفرز حروبا دموية وبلدا مشتتا انتهى في الأخير بانفصال جزء منه ومهدد بخسارة أجزاء أخرى.

السودان الذي "نعيشه" اليوم بالتأكيد ليس هو الجمهورية التي سعى إليها محمود طه. ليس سودان المثقف الحالم بدولة الحرية والعدل الاجتماعي. ليس هو سودان الطيب صالح وعبد الخالق محجوب وغيرهما. سودان اليوم هو بلد العسكر المتصارع على غنائم كثيرة. بلد "حكام الصدفة" والمتخمرين بالنزعات القبلية وتجار الماشية والذهب، سودان المأسورين بعقلية الجذب، والمحكومين بالعقول الجافة وغير المؤمنين بفكرة الدولة والرافضين أصلا لقوانينها وخاضعين فقط لما يضمن مصالحهم ويبقي نفوذهم كلفهم ذلك ما كلفهم.

محنة محمود طه إذن هي محنة المثقف السوداني المغترب في بلده، المثقف الذي تحطمت أحلامه أمام حقيقة الواقع المريض. واقع التقاتل على مواقع لا تغري أصلا السعي إليها والتضحية بدماء السودانيين لأجلها. ما عاشه طه، عاشته أجيال كثيرة عربيا وإفريقيا ولازالت تعيشه في فضاء يبدو أنه مجبول على التقاتل والدماء، في وقت تُجبَل مجتمعات أخرى على العلم والوعي. هذا محمود طه الثائر على مسلمات المجتمع وعلى محتكري الدين والتديّن، لكنه أيضا المثقف المنهزم على عتبة التخلف.



كاتب تونسي